تعرف البشرية الطوفان من خلال "سفر التكوين" في كتاب "العهد القديم" لدى المسيحيين ("التوراة" لدى اليهود). قبل حدوثه حذّر اللهُ نوحاً منه، وطلب منه أن يبني "فلكاً" (سفينة). أدخل إليه من كلّ ذي جنس اثنين (ذكراً وأنثى). وتُكمل الرواية أنّه بعد نهاية الطوفان وانحسار المياه فتح نوح باب "الفلك" وخرج مع أفراد عائلته وكلّ الحيوانات، فأنقذ الخليقة من الاندثار.


كتب فادي الاحمر في "أساس ميدي":

"الطوفان" في ليبيا

حتى بداية الأسبوع الفائت كنّا نعتقد أنّ الطوفان رواية. أسطورة. وإذ به يتحقّق في ليبيا. إنّه "الطوفان". سيول حوّلت مدينة دِرنة إلى بحر. مياه تدفّقت فجرفت الحجر والبشر. سقطت المباني وكأنّها من كرتون. اقتُلعت الجسور. انهارت الطرقات. اصطدمت السيارات بعضها ببعض وكأنّها سيارات أطفال في مدينة الملاهي. لا شكّ أنّ ما حدث في ليبيا استثنائي جدّاً. لا يحدث كلّ سنة ولا كلّ عشر سنوات ولا كلّ مئة سنة. خاصّة في البحر المتوسّط. عادةً المحيطات تصنع العواصف والأعاصير. ولكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبسبب التغيّر المناخيّ، بدأت تتشكّل أعاصير متوسطية (تُعرف بـ Medicane). ترصدها مراكز الأرصاد الجويّة. يحلّلها العلماء المتخصّصون. يعطونها اسماً. يحدّدون سرعتها ويتابعون حركتها واتّجاهاتها. وينذرون المسؤولين. يتّخذ هؤلاء التدابير اللازمة لتخفيف الأضرار وإنقاذ المواطنين. ألم يكن العلماء على علم بإعصار "دانيال" قبل أن يضرب في ليبيا؟ ألم يكن بالإمكان تفادي الكارثة؟

الزلازل تفاجئ الدول المتطوّرة كما تلك المتخلّفة. تدمّر وتقتل بحسب قوّتها. باستثناء اليابان وأبنيتها المقاوِمة للزلازل، لا يمكن أيّاً من الدول مقاومة الزلازل.

إنذار أميركي في الأوّل من أيلول بحسب "المركز الأميركي للأعاصير"، لاحظ الخبراء في 1 أيلول تشكُّل عاصفة في شمال المحيط الأطلسي. سرعان ما اشتدّت. وتحوّلت بعد ثلاثة أيام إلى إعصار. سمّوه "دانيال". توقّعوا أن يضرب السواحل الفرنسيّة. لكنّه ابتعد عنها وضرب في اليونان وتركيا وبلغاريا. استعدّت له حكومات الدول الثلاث. أنذرت مواطنيها. فلم يسقط منهم سوى 26 في الدول الثلاث. بعدئذٍ تحوّل "دانيال" جنوباً. زادت من قوّته حرارة مياه البحر المتوسّط المرتفعة. فضرب بعنف شديد الشواطئ الليبيّة في شمال شرق البلاد. هنا لا أجهزة إنذار مبكر ولا دولة. البلاد منقسمة بين سلطتين وحكومتين. جيش وطنيّ يحارب حكومةً معترفاً بها دولياً وتستعين بالميليشيات والمرتزقة للدفاع عن سلطتها ومناطقها. وككلّ صراع داخليّ، هناك العديد من الدول الإقليميّة والعالميّة على خطّ الصراع، خاصّة أنّ البلاد تختزن كمّيات كبيرة من احتياطات النفط والغاز، وتقع في وسط الواجهة الجنوبية للبحر المتوسّط وقبالة العديد من الدول الأوروبيّة. لو كان في ليبيا دولة لربّما كانت آثار "دانيال" أقلّ بكثير. هذا ما أكّده الأمين العامّ للمنظمة العالمية للأرصاد الجويّة: "كان من الممكن تجنّب سقوط ضحايا في فيضانات ليبيا لو كان لدى الدولة المنقسمة هيئة أرصاد جوّية قادرة على إصدار التحذيرات".

الليبيّون ضحايا الإهمال الكارثة الكبرى في مدينة دِرنة. والسبب تدمير سدّين شُيّدا في سبعينيات القرن الماضي لحماية المدينة من السيول. فقد نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" عن أحد الخبراء في علوم المياه تحذيره قبل سنة السلطات الليبيّة من الإهمال اللاحق بالسدّين وضرورة صيانتهما بشكل دوريّ. وذكّر الخبير في تقريره الموثّق بأنّ وادي دِرنة عرف أربعة سيول كبيرة منذ 1942. لم تقرأ السلطات التقرير. ولم تقُم بصيانة السدّين. أتى "دانيال". هطلت الأمطار بكميّات فاقت قدرة السدّين. لم يصمدا. جرفهما السيل. ثمّ جرف حوالي ربع مدينة دِرنة وقتل ما يُقارب 20 ألفاً من أبنائها (بحسب رئيس البلديّة). وما زاد من سوء الكارثة أنّ السيول دمّرت الطرقات والجسور. فلم تستطع فِرق الإنقاذ الوصول إلى من بقي عالقاً وسط المياه. فقضى أيضاً. "طوفان" ليبيا كارثة ترتقي إلى جريمة ضدّ الإنسانيّة. سببها غياب الدولة. ومرتكبوها المتصارعون على السلطة في ليبيا منذ سنوات. هؤلاء يكملون في صراعاتهم حتى بعد "الطوفان" على الرغم ممّا يُحكى عن توحّد الليبيين في مواجهة الكارثة. فوضى البلاد انعكست فوضى في إدارة الأزمة، فتأخّرت عمليات الإنقاذ ووصول المساعدات. حتى أكياس حفظ الجثث غير متوفّرة بشكل كافٍ! وهو ما يُهدّد بتفشّي الأوبئة والأمراض بعد زوال "الطوفان".

الزلازل تفاجئ

 يمكن للخبراء رصد ما فوق الأرض قبل أيام والتحذير منه. لكنّهم لا يستطيعون رصد ما يحدث في باطنها إلا قبل دقائق. الزلازل تفاجئ الدول المتطوّرة كما تلك المتخلّفة. تدمّر وتقتل بحسب قوّتها. باستثناء اليابان وأبنيتها المقاوِمة للزلازل، لا يمكن أيّاً من الدول مقاومة الزلازل. زلزال المغرب كان قويّاً. بلغت قوّته 6.8 درجات على مقياس ريختر. ضرب جبال الأطلس الكبير حيث تنتشر القرى. سكّانها فقراء. يعيشون من الأرض. زاد جفاف السنة الماضية من فقرهم. بيوتهم من طين. بالكاد تحميهم من مطر الشتاء وتقيهم شمس الصيف. لم تصمد أمام الزلازل. سقطت سريعاً. وأسقطت معها ما يُقارب 3 آلاف قتيل.

تأخّر في الإنقاذ

حتى هنا "المشهد طبيعيّ" لكارثة طبيعيّة. لكن ما هو غير مألوف التأخّر في أعمال الإنقاذ وفي وصول المساعدات الذي أدّى إلى زيادة عدد الضحايا: "ليس بحوزتنا رفوش ولا معاول" لإنقاذ الأحياء وسحب الجثث، قال أحد المغاربة. وروى شابّ نجا بأعجوبة لمراسل "لو فيغارو": "أنقذنا ثلاثة أشخاص. كانوا يتنفّسون. لكن بسبب غياب فرق الإسعاف والأدوية ماتوا بعد ساعات". كما وقف المواطنون في طوابير طويلة للحصول على "خيمة صفراء" هزيلة، بحسب ما نقلت "الشرق الأوسط". هذا باختصار المشهد في المغرب بعد الزلزال!


المصدر : اساس ميديا