أثر إهمال بناء القوة في ضُعف المكانة العربية
18-10-2023 06:34 PM GMT+03:00
ليست عقيدتي العسكرية من أملت علي الحديث عن بناء القوة، ولا جنوحي نحو العسكرة والغطرسة وحكم البطش، وليست لغتي حصراً في سلاح وحرب ومعارك.. بل مباديء وثوابت وجوجلة خبرات وعصارة تجارب ودروس تاريخ ومصائر شعوب وأمم تخلت عن قوتها واستكانت ونامت وسط أعاصير الشر تذوي بها رغباتالركون للسكون وتذروها رياح الغفلة.
مما لا شك في وما خبرناه أن قيامة الأوطان ودوامها وثباتها هو في ارتكاز القوة، وأن أول عوامل الردع وفرض المكانة هو بالأساس عامل القوة، ليس في حيازة أسبابها فحسب، وإنما بالتهديد الدائم بها مع صدق النية باللجوء إليها، ليس من باب الإستقواء ولا فرض الهيمنة، بل من باب الحفاظ على الإستقرار وصون السلم والأمن وفروض الدفاع عن الوطن. ويكون اللجوء إليها حيناً كرد فعل على فعل إعتداء، وجعل الطرف المعادي يبني حساباته ويقيم أولوياته ويدفعه نحو حسبان مخاطر الخسارة، ويكون أحياناً أخرى فعل استباق على خطر إعتداء محضر.
القوة هي القاعدة والأرضية الصلبة قبل أي اعتبار آخر للحفاظ على حيّز الأوطان، وعليها تقوم السياسة والدبلوماسية والتفاوض وقس على ذلك ما شئت.
لن تنجح سياسة ولن تفلح دبلوماسية إن لم تكن قوياً مُهاباً يحسبون لك ألف حساب. طبعاً معيار القوة ليس فقط في ترسانة السلاح كماً ونوعاً، لكنه بالتوازي في بناء الإنسان المقاتل وفي إرادة القتال والدفاع عن الحق عندما وحتى قبل أن تتهدده الأخطار. هكذا علمتنا التجارب، وهكذا يخبرنا التاريخ القديم والمعاصر والحديث.
ليس ترفاً ولا تنظيراً سوق هذه الثوابت والأسس، لكن اذا كنا وسط إقليم تتصادم فيه كل قوى الكون، ولا تنقصنا مصادر القوة ولا وسائلها وإمكاناتها، ويحيطنا أعداء لا يفهمون الا لغة القوة.
لا يفاوضونك الا عندما يكونون مأزومين متخبطين يهادنونك لالتقاط الأنفاس وشراء الوقت، وسرعان ما يعودون بعد انتعاشهم الى غيهم وعبثيتهم، والتجارب ماثلة كثيرة متكررة، فكيف أنفحهم الأوكسيجين وأحقنهم بالطمأنينة وأعالجهم بالدبلوماسية؟ وأنا أعلم أنهم يتربصون بي؟ بدل أن أظهر لهم قوتي وحزمي وعزمي وأزرع في يقينهم جديتي في المقارعة قبل المطاوعة ولا أَهن ولا ألين لأني مستند إلى قوة بنيتها لأبني سلاماً قوياً مستداماً. فالحرب ليست لأجل الحرب بل لأجل السلم، ومن أراد السلم عليه الإستعداد الدائم للحرب.
لا صُلحَ حتى تُطعنَ الخيلُ بالقنا / وتُضربَ بالبيضِ الرقاقِ الجماجمُ.
من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ.
عندما يتأكد الخصم من غياب إرادة القتال عندك، لن يفاوضك بغير أسلوب الإبتزاز ويماطلك ويثير لك القلاقل والفوضى ويهدد استقرارك كلما طلعت شمس، يأخذ منك أضعاف ما يعطيك ويشارطك على ما أعطاك من نزرٍ عسير. لذلك أقلع من فورك وغير أسلوب التفاوض بإفهام الخصم أنك جاهز للأسوأ وأنك مستعدللحرب مع أنها آخر حلقة في سلسلة السياسة، واظهر له إمكانات قوة لديك أعددتها لترهب بها عدو الله وعدوك، وازرع في يقينه أنك بنيت المقاتل وشحنت النفوس للقتال. وبعدها فاوض لتكسب لا لتعطيه من كيسك تخسر ويكسب.
بانتهاء العراق كآخر قوة عربية وقبله تكبيل مصر بكامب ديفيد من فوق الطاولة، وعقد اتفاقيات التسليم الاسدية الكيسنجرية الاسرائيلية من تحت الطاولة.. أطل علينا القرن 21 بغياب أي قوة عربية يُحسب حسابها، وسط تصاعد إيران كتهديد جديد شُرعت له الأبواب بعد ضرب طالبان عن يمينه والعراق عن شماله، فأخذ يسرح ويمرح في عدة ساحات عربية، تقوده أيديولوجيا خرافة وقومية فارسية وأحلام امبراطورية كسروية وتاج يتلطى تحت عمامةٍ سوداء وعباءةٍ غبراء، تتلبس لبوس دين بإسلام مشوه عن إسلام أصيل تريد تسويقه وفرضه ومن ورائه إحياء لكسرى وبعث لزرادشت.
أتاحت العولمة والتطور التقني الهائل وسرعة التواصل وتقارب المسافات، تمازج الثقافات وتخالط الشعوب وانفتاح الآفاق والتطور والتقدم والإنفتاح والحداثة... ما مكن دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، إضافةً لثروات الطاقة المهولة لديها، من ركوب قطار العولمة وشق طريقها نحو الإزدهار والنمو والتطور بسرعة قياسية. كانت هذه الدول تركن في حمايتها على العقيدة الأميركية (عقيدة كارتر) بالحفاظ على أمن الخليج حفاظاً على أمن الطاقة العالمي ومنعاً من تمدد الخطر الشيوعي. بانهيار الاتحاد السوقيتي ثم بالإكتشاف الأميركي للنفط الصخري وتأمين مخزونها الطاقوي للخمسين سنة القادمة على الأقل، انخفض الإهتمام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط وأخذت تسير على نهج عقيدة جديدة/آسيا الباسيفيك للإحاطة containment بالصين القوة العالمية الصاعدة بقوة (عقيدة أوباما/كلينتون/بايدن).
تنبهت دول الخليج جيداً لهذا التحول او الإنحراف الأميركي خصوصاً أن أميركا قد عقدت مع إيران الخطر الجديد على العرب اتفاقاً نووياً وأخلت لها الساحات لتعيث الاستقرار في الدول العربية وتشاغلها وتنشغل بها لتحقيق أمن إسرائيل كعقيدة أميركية ثابتة عند كل الإدارات الأميركية المتعاقبة. خلال ذلك استطاعت ايران النفاذ الى نسيج المجتمعات العربية بتسليح وتأليب الجماعات التي تتماهى معها بالعقيدة والمذهب للتمرد على أوطانها ما أدى لإضعافها وانحلالها ونخرها بالفساد والجريمة والفوضى الهدامة. إذاً أصبحت ايران تحارب العرب عبر وكلائها الميلشياوية Non state actors فكيف لا نعاملها بالمثل، ولا ينقصنا، وأحياناً نجابه بعض أذرعها وشراذمها ونقارع الوكيل بدل أن نقارع الأصل؟ ما هذه القاعدة التي أتعارك بها مع الشراذموأواجه من يحركها باللين والدبلوماسية؟ بمعنى آخر: كيف أتلهى بالنتائج وأهمل الأسباب؟ حيث متى ما قضينا على السبب ينهار معه ولتوه كل ما نتج عنه.
إن المشروع العربي الجديد مشروع التنمية وفق خطة 2030 الذي تقوده السعودية، واعد وخلّاق محط أمل ورجاء. والتحدي الذي أعلنه سمو ولي العهد بجعل الشرق الأوسط أوروبا الجديدة، يبشر بنهضة غير مسبوقة وتطلّع سباق بغد مشرق رغيد، يجب أن تنخرط فيه كل الدول العربية دون تردد. وإزاء كل ذلك أشعر كعربي غيور بالإعتزاز والفخر أن هناك قامة عربية وهامة عالية ذات رؤية واستراتيجية ثابتة مصممة على أخذ كل الإقليم نحو السؤدد والرقي. وبذات الوقت أتحسر على كل من يتخلف عن ركوب قطار المستقبل هذا وأولهم بلدي لبنان وبعض البلدان العربية الأخرى التي امتطتها إيران تريد حرف وجهتها عن انتمائها وهويتها وبيئتها العربية.
هذا الطموح الرائد والتطلّع الكبير، كيف نصونه ونؤمنه ونحميه؟ أليس ببناء القوة الرادعة قبل كل شيء؟ نعم السعودية والإمارات على رأس الدول العربية التي تتزود بكل أنواع الأسلحة المتطورة وذات الدقة العالية. وللعلم ووفقاً لمعهد استوكهولم لدراسات وأبحاث السلام SIPRI أحتلت السعودية والامارات المركز الاول عالمياً لأعوام 2014 – 2015 - 2016في استيراد السلاح تلتها الهند. ترسانة هائلة من السلاح... ولكن... إذا امتلكنا ذلك ولم نستعمله في وجهته الصحيحة وضرب رأس الأفعى، أو على الأقل نرهبه به لنردعه كما قلنا مع صدق النية باستعماله، وإذا لم نجعل الخصم يهابنا لأنه متيقن من تصميمنا على اتباع الدبلوماسية معه كخيار أوحد... إذاً ما الجدوى؟ كيف نقيم البنيان والعمران ونؤسس التنمية، وفي سويعات قليلة قد ينهار كل شيء بلحظة شيطان غادر حاقد لا يضيمه الا تقدمنا وملائكيتنا. لذلك و بالتوازي: نبني ونحمي، نشيد البنيان ونحميه عبر بناء العربي المقاتل الذي أعطى دروساً لكل الكون في خوض غمرات الحروب والإنتصار.
وفي وقت تقودنا مملكة الخير نحو الرخاء والرفاه، كذلك هي مسؤولة بغياب القوة العربية أن تقودنا بالتواكب نحو استعادة المكانة والمهابة، وتبقى هي الأمل الوحيد المرتجى. الشيطان لا يخيفه منا غير إرادة القتال وعزمنا على كيده بالكيد، وأننا للسلم رجال كما للحرب فحول. فكيف إذا كانت معنا قوة الحق نقمح بها حق القوة؟
المصدر : الشفافية