أمين بشير - محامٍ ومحلل سياسي


لا شك أنّ ما يعانيه وطننا الحبيب " لبنان " اليوم، وطناً ودولةً وعيشاً مشتركاً وهوية هو امتحان مصيري لم يسبق له مثيل منذ تأسيسه، ورغم مزايدة البعض في الحديث عن عيش واحد وهوية لبنانية واحدة وربما هذا ما نراه صحيح، ولكنّ أغلب اللبنانيين لا يرون ذلك، فعندما يكثر الحديث عن العيش المشترك، فاعلم أنّ الطائفية في أوجها. 

غير أنّ ما يتفق عليه جميع اللبنانيين بمختلف طوائفهم، لا سيما العائد من الخارج بأن للهوية اللبنانية ميزة ثقافية واحدة تجمع اللبنانيين وتميّزهم في المنطقة والعالم، نتيجة هذا التعايش المشترك على مر الزمن. فالمسلم اللبناني يختلف عن المسلم في المنطقة، كما المسيحي اللبناني يختلف عن المسيحي، إذاً هي الهوية اللبنانية التي جُبلت من أفراح ومآسي هذا الشعب الذي عانى ويعاني ولا سيما في السنوات الأخيرة من كوارث اقتصادية ومالية وتدميرية ( انفجار مرفأ بيروت).

 كل هذه المآسي طاولت قيمة حضارية كبرى جسدتها التجربة اللبنانية الحديثة، والتي جعلت منه أكثر من بلد بل رسالة في محيطه والعالم بحسب قول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، وشهادة المدير العام الأسبق لمنظمة اليونيسكو René Maheu الذي كتب غداة اندلاع الحرب في لبنان عام 1975 : " إنّ لبنان الحديث أعطى المثل على نمط حضاري نابع مباشرة من بنيته المركبّة : فالتسامح الديني والأيديولوجي الذي كان سائداً لفترة قريبة خلت، والاحترام المتبادل، والقبول بتنوع المفاهيم والعادات، وتلك الحكمة الفطرية التي كانت تجعل من المواجهات الحادة لحظة يواكبها البحث عن تسويات عملية تؤدي على الأقل إلى طريقة مرضية للعيش، وحرية التعبير التي تجعل الحوار مهما تعدد وتنوع ممكناً، وأخيراً الانفتاح على العالم والدعوة إلى العالمية … كل هذه المعالم المرتبطة بجوهر الحضارة نفسها هي معالم نادرة، ولا يجوز أن نقبل وببساطة رؤية النبع ينضب، حيث كنّا متأكدين من وجود هذه المعالم بوفرة ."

إنّ اللبنانيين يجب أن يستخلصوا الدروس والعبر من تجربتهم التي كلّفتهم أكثر من مئة ألف قتيل، وهذا الثمن الكبير قد دفع من جميع اللبنانيين دون استثناء .


وهذه الدروس علمتنا أن وطن العيش المشترك لا يقوم على أساس موازين القوى المتغيرة بطبيعتها، أي غلبة فريق على آخر، بل على قوة التوازن. فالغلبة ولا سيما إذا كانت استقواء بالخارج على الداخل تؤدي إلى ردة فعل مماثلة تجعل من الآخر يبحث على خارج ما يستقوي به على الداخل. ولا يوجد في المكونات اللبنانية من لا يستطيع أن يجد خارجاً ما، لا سيما مع الأطماع الكبرى من مختلف دول الجوار والمحيط. وقد اختبرنا ثلاث غلبات حتى يومنا هذا ما زالت تحفز الآخر على الرد بصورة أو بأخرى.

الغلبة المارونية (واستطرادا المسيحية) قبل الحرب، الاستقواء الإسلامي أثناء الحرب وقبلها بالمقاومة الفلسطينية، والاستقواء الشيعي الراهن بإيران وسلاح حزب الله.

هذه الوقائع ليس لنقول بإنّ التعدد اللبناني أو هذا التنوع محكوم بالحروب والصراعات وبدورات متتالية من الاستقواء حتى يذهب البعض إلى اقتراح كيانات من لون واحد حلاً للمشكلة أو إلى آخر يدعو إلى ضم لبنان في كيان أكبر .

إننا نعتقد بأنّ ما أوصل لبنان إلى أزماته الراهنة وغير المسبوقة، هو انتقاص سيادة الدولة حتى الوصول إلى غيابها بشكل كامل، وما الكوارث التي حلت بلبنان سوى نتائج حتمية لذلك. فالفساد وسوء الإدارة وتقاسم مغانم الدولة والمحاصصة والهدر الفادح وغياب التخطيط والمعالجات العلمية وتعليق الدستور واللعب على القوانين واستبدالهم بالأعراف، وإمساك فريق بقرار الحرب والسلم بيده وصولاً إلى نبذ العالم العربي لنا … كل ذلك نتيجة حتمية لغياب السيادة والاستقلال الفعليين .

وفي ظل تنامي الأصوليات في المنطقة برزت ثلاث تيارات تتصارع على النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري حتى في المنطقة، أولهم وكبيرهم ومن علمهم السحر الأصولية اليهودية أي الصهيونية التي تؤمن أن اليهود الشعب الذي اختاره الله فوق كل الشعوب، وتيار إسلامي شيعي متشدد يدعي الحصرية في قضية فلسطين، وقد استطاع أن يدخل العالم السني من خلال إيران التي لم تبنِ نفوذها في المنطقة اعتماداً على التحالف مع حركات الإسلام السياسي الشيعي فقط ، بل اعتمدت ، في قوتها الناعمة ، على بناء جسور التلاقي مع الحركات الإسلامية السنية وتحديداً الإخوان المسلمين، الذي بدوره أيضاً ينافس على النفوذ في المنطقة من خلال تركيا.

هذه الأصوليات الثلاث تتصارع وتتكامل في تقسيم النفوذ السياسي في المنطقة، ولا سيما بعد إعلان ايران صراحة سيطرتها على أربع عواصم عربية، يقابلهم مشروع عربي حديث العهد يتزعمه ولي العهد السعودي يبحث فيه عن هوية عربية جديدة هوية عربية ثقافية لا دينية، تؤمن الاستقرار والازدهار، وتحدّث فيها عن شرق أوسط جديد عن أوروبا جديدة، كأنه كان يقارن بين تاريخ أوروبا وحروبها الدينية التي دامت مئة عام ولم تنته سوى بالانتهاء من هذه الصراعات والتحول إلى اقتصاديات منتجة ودول مدنية تقوم على العلم والثقافة والفكر والاقتصاد لما فيه خير الإنسان، هذا ما يطمح إليه الأمير الشاب، أن يُخرج الشرق الأوسط من حروبه الدينية اللانهائية إلى فضاء الحرية والعدالة والمساواة، ودعا جميع دول المنطقة إلى الالتحاق بهذا المشروع الطموح. أما الدول التي تريد شعوبها البقاء وقود لهذه الصراعات الدينية فهذا خيارها .

وكذلك الأمر بالنسبة إلى شعوب الطوائف في لبنان فهذا خيارها، فإما أن تختار المضي وقوداً في صراع العصبيات الدينية في المنطقة أو تدافع عن الهوية الوطنية التي تحمي الجميع وبالجميع وأساسها الدستور والقانون والالتزام بالشرعية الدولية التي إذا ما أردنا الخروج عنها دخلنا إلى قانون الغاب والبقاء للأقوى وطبعاً لسنا الأقوى.

 

( الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )

 


المصدر : Transparency News