عطالله وهبي - كاتب ومحلل سياسي


صحيح أن المصالح الإيرانية - الأميركية قد تتقاطع في المنطقة، وهي تقاطعت تكتيكيا في كثير من الأحيان في محاربة القاعدة في أفغانستان وداعش في سوريا والعراق. كما تقاطعت سابقًا في الحرب العراقية - الإيرانية عبر إسرائيل في إيران. ومع ذلك، توجد تصورات متناقضة إستراتيجيا بين الولايات المتحدة وإيران بشأن مستقبل الشرق الأوسط.
من الممكن أن تتقاطع هذه المصالح مرة أخرى بعد الترسيم البحري في لبنان من خلال ترسيم الحدود البرية، في إطار اتفاق نووي إيراني – أميركي. ومع ذلك، يظل الهدف الرئيسي لإيران هو تحقيق مكاسبها في إتمام برنامجها النووي والاحتفاظ بمكتسباتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بهدف تعزيز وجودها كقوة إقليمية في المنطقة.
على الرغم من ذلك، لا يغير ذلك الحقيقة المتناقضة لرؤيتين لمستقبل الشرق الأوسط، إحداهما من الغرب الأميركي والأوروبي وإسرائيل، والأخرى من الشرق الصيني والروسي مع إيران.
الفكرة الشرقية التي أطلقتها "منظمة شنغهاي للتعاون" في عام 2001 وبعدها مجموعة "BRIC" في عام 2006 التي تحولت  إلى "BRICS" لاحقا مع انضمام إفريقيا الجنوبية، لمواجهة وكسر أحادية القطب الأميركي المهيمن على العالم لا تزال قائمة، وأنّ إيران هي التي تلعب الدور الأساسي كمندوب شرق أوسطي لهذه الجهود بعد انضمامها كعضو دائم لـ "منظمة شنغهاي" في عام 2023 والانضمام لـ "BRICS"، إلى جانب مصر والسعودية والإمارات في العام نفسه.
هنا، من المفيد العودة إلى الحرب الأوكرانية - الروسية التي اندلعت في فبراير من العام الماضي، والتي تحولت حتى اليوم إلى هزيمة غير معلنة لـ 52 دولة، من بينها 30 دولة لحلف "الناتو" بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.
وما كان ذلك ليكون لولا استمرار "أوبك بلس" والمملكة العربية السعودية في تخفيض إنتاج النفط للمحافظة على أسعار مرتفعة. هذا الإجراء ساهم في تمويل الرئيس الروسي لجهوده الحربية وتجاوز العقوبات الدولية الفاشلة، والعقوبات على "مصرفه المركزي" (التي جمدت أصولا تابعة له تفوق 350 مليار دولار، في سابقة تاريخية للعقوبات على مصرف مركزي!).
من المهم أيضًا التذكير بالتقلبات في السياسة الأميركية تجاه المملكة العربية السعودية والتي اتسمت بالعدائية في كثير من الأحيان، خاصة خلال فترة حكم الحزب الديمقراطي أي منذ عهد الرئيس أوباما (2009)، حيث دعمت الثورات العربية ووصول الإخوان المسلمين إلى السلطة عبر الغنوشي في تونس، ومرسي في مصر، وكانت لتشمل البحرين لولا تدخل درع الجزيرة الخليجي عسكريًا، لحفظ النظام في البحرين من انقلاب محقق، وثم إسقاط مرسي في مصر وإبعاد الإخوان المسلمين عن مصر (بوابة الإخوان) إلى شمال إفريقيا.
منذ تلك المرحلة، وبعد وفاة الملك عبدالله واستلام الملك سلمان وولي عهده محمد، اتسمت العلاقات السعودية - الأميركية بالتوتر أيضًا، وفتحت الحرب السعودية - اليمنية كإعلان سعودي على عدم الموافقة على المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، والتي تكللت بعدها بأشهر بالـ jcpoa بينهما في عام 2015 ودام إلى أوائل عام 2018 في عهد الجمهوريين مع ترامب، الذي أخرج أميركا منه بعد عملية، للموساد الإسرائيلي في قلب إيران أواخر عام 2017، تمكن خلالها في الحصول على مستندات سرية توثق تخصيب إيران اليورانيوم في أماكن سرية بعيدة عن عيون وكالة الطاقة الذرية ومراقبتها. 
ولا طبعا لا نستطيع أن ننسى بأن أوباما تغاضى عن قصف بشار الأسد لشعبه في الغوطة عام 2013 بالكيماوي، بعد أن كان قد طلب من الكونغرس الموافقة على التدخل العسكري لبارجاته في سوريا، والتي أعادها من منتصف الطريق، للحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران. 
كما أن عودة بايدن على رأس الحزب الديمقراطي لرئاسة أميركا زاد من العدائية الأميركية تجاه السعودية. وكان الرئيس بايدن قد وصف ولي العهد السعودي بالقاتل (اتهامه بقتل الصحافي الاخونجي الخاجقشي في السفارة السعودية في تركيا وتقطيع جثته) وأنه يجب إعادة المملكة إلى "جزيرة منبوذة"
وفي أول عمل لإدارته أزال الحوثي عن لوائح الإرهاب لمحاصرة المملكة، ورفع صفة السرية عن تقريرين لـ CIA  مرتبطين بولي العهد (الذي لم يكن قد أصبح بعد رئيسا للوزراء، وكان وزيرا للدفاع) الأول يتعلق بالمحاكمات التي قد تطاله بقتل الخاجقشي، أما الثاني فيتعلق بأحداث 11 سبتمبر في نيويورك.
وصل معدل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية إلى 10% في نهاية عام 2002 خلال الحرب الأوكرانية. وقد أدت سياسة "أوبك بلاس" إلى ارتفاع سعر غالون البنزين من 35$ إلى حوالي 70$، مما دفع الرئيس بايدن إلى التراجع عن سياساته العدائية تجاه المملكة وزيارتها، لكن هذه الزيارة – التي اتسمت بالبرودة وشهدت مظهرًا غير تقليدي للتحية بدلاً من المصافحة - لم تحقق أي نتائج في رفع إنتاج النفط من "أوبك"، ما دفع بايدن إلى التراجع عن قيود التنقيب عن النفط في الولايات المتحدة، على الرغم من التحديات المتعلقة بالتغير المناخي. وتزامنت هذه التحولات مع زيارة الرئيس الصيني للمملكة العربية السعودية، التي لقيت ترحيبًا كبيرًا وأفضل استقبالًا مقارنة بزيارة بايدن. 
تجدر الإشارة إلى أن السعودية كانت قد بدأت، في عهد الحزب الديمقراطي برئاسة أوباما عام 2014، في تنويع مصادر تسليحها بشراء أسلحة وصواريخ باليستية صينية. وفي عام 2022، كشفت تقارير عن وجود مصانع صينية للصواريخ في السعودية، وأيضًا مصانع للطائرات المسيرة الصينية.
تأثرت المنطقة بزيارة الرئيس الصيني، حيث نظم ولي العهد قممًا عربية وخليجية وسعودية. وتبعًا لهذه التطورات، تم التأكيد على التفاهم السعودي - الإيراني برعاية صينية في مارس 2023، وهو التفاهم الذي استمر ولا يزال صامدًا حتى اليوم.
 كل هذه التحولات تشير إلى أن السعودية قد انحازت إلى المعسكر الشرقي. 
ومع ذلك، فإن مفاجأة كبيرة جاءت مع تسريبات إعلامية عن صفقة تطبيع سعودي-إسرائيلي بضمانات أميركية، تشمل برنامجًا نوويًا سعوديًا وصفقة سلاح أميركي متطور وغيرها من الاتفاقيات. بالإضافة إلى مشاركة المملكة في قمة “G20” في نيو دلهي في الهند، والتي أعلنت خلالها التوافق على الممر الهندي الذي يمتد من الهند  - البحر الأحمر- الجزيرة العربية – الأردن – إسرائيل-البحر المتوسط -أوروبا.
والمفاجأة أن كلا الأمرين مترابطين. ما يحول دون إمكانية تصنيف المملكة بين سلوكها السابق والحالي (مع إعلان سفير المملكة في لندن استعدادها للتطبيع بعد انتهاء حرب غزة) إلى حصرها في معسكر شرقي.
زاد كل هذا التشابك، عملية طوفان الأقصى التي جاءت في توقيت مدروس بعد شهر واحد من إعلان الممر الهندي والتطبيع السعودي – الإسرائيلي، لتزيد من تعقيدات المشهد الشرق أوسطي وتداعياته!
هذا الطرح كله يأتي ليضع عملية طوفان الأقصى في سياقها الأبعد من حرب إسرائيلية - فلسطينية، بل حرب تنتهي في إنشاء نظام شرق أوسطي جديد. فهي وإن قال الحوثي إنه يهدد ملاحة البحر الأحمر لأجل غزة، إلا أنه يقوم بذلك في سياق حرب الممرات البحرية العالمية التي تتلطى خلفها إيران وروسيا والصين.
ما يمكن أن يقوم به فصيل إيراني، يُدعى الحوثي، في تهديد الملاحة الدولية وحرب الممرات البحرية في البحر الأحمر، يمكن أيضًا أن يقوم به فصيل إيراني آخر، يُدعى حزب الله في لبنان، في تهديد ممر بحري آخر، وهو البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، وتهديد الطريق الطويل والمكلف الذي تسلكه الآن سفن الشحن عبر القرن الأفريقي ورأس الرجاء الصالح غي كايب تاون لتفادي الخطر الحوثي في البحر الأحمر.
يتجاوز طوفان الأقصى غزة، ويتجاوز الحرب المحدودة بين الحزب وإسرائيل على البحر المتوسط جنوب لبنان قواعد الاشتباك وقدرة القرار الدولي 1701 على الحل. كما يتجاوز أهمية الحفاظ على هيمنة أمريكا في العالم والحفاظ على قوتها الردعية كل الحسابات التي تصبح ثانوية فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأمريكية.
لا يمكن لأمريكا أن تظهر أي إشارات ضعف في الشرق الأوسط بعد خسارتها الغير معلنة في أوروبا داخل أوكرانيا مع روسيا.
(في المنشور التالي، سنناقش كيفية التعامل الأمريكي مع المنطقة عبر البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وحرب إسرائيل.)

( الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )


المصدر : transparency news