كتب المخرج يوسف ي. الخوري


زارني بعض الأصدقاء منذ يومين، وكان من جملة أحاديثنا كتاب كريم بقرادوني: "ميشال عون، رجل التحدّيات". تفاجأ أصحابي كيف لم أقرأ الكتاب، فأوضحت أنّني حسمت أمري منذ زمن بعيد مع كريم، فكلام ومواقف هذا الرجل يفوقان قدراتي العقليّة على الاستيعاب والفهم، وكتاباته هي أقرب إلى "المورفولوجيا الخرافيّة" التي تحوّر الوقائع، وأنا لست من هواة الخرافات والـ Science Fiction.


وبما أنّ    أصحابي يعرفون جيّدًا بأنّي لا أستسيغ إطلاق الأحكام مسبقًا، كرّر أحدهم زيارتي أمس وفي يده نسخة من الكتاب. سألته: "أدَفعت ثمن هذا الكتاب من أجلي؟" فأجابني: " لا تُحرج، باستطاعتك قراءته ومن ثمّ إعادته لي، لكن اقرأه".


في الحقيقة سُررت بالهدية لسببين، الأوّل لأنّي لم أدفع ثمن كتاب لبقرادوني من ميزانيتي، والثاني لأنّي أوشك على إنهاء فيلمي عن بشير الجميّل، ولا بدّ لي أن أقف عند كلّ ما قيل ويُقال عن هذا المقاوم، لاسيّما وأنّ كريم خصّص الفصل الأوّل لعلاقة ميشال عون ببشير، وعنونه: "مع بشير الجميّل مقاومة وإصلاح".


لم أضيّع الوقت وهممتُ مباشرة على قراءة الفصل المذكور، وسرعان ما أدركتُ أنّني حططت من أهمّية "المورفولوجيا الخرافيّة" حين اعتبرتُ أسلوب بقرادوني الكتابي قريبًا منها، لأنّ "المورفولوجيا"، وتحديدًا الخرافيّة، فيها الكثير من الإبداع، وغالبًا ما تُحفّز على السجالات والنقاشات حول ما تطرحه، بينما ما وجدتُه في كتاب كريم الذي بين يدَيّ، لا يعدو كونه حفنة من التلفيقات والأكاذيب.


"مع بشير الجميّل مقاومة وإصلاح"؛ رحتُ أبحث عن بشير في السطور وبينها، لكنّني ما وجدتُ سوى ميشال عون! لا جبهة لبنانيّة، لا حركات طلابيّة، لا كتائب، لا أحرار، لا حرّاس أرز، لا مردة، لا تنظيم ولا هيئات شعبيّة... وإنّما فقط ميشال عون!! وأيّ ميشال عون؟!! "كان عون ومعظم رفاقه الضبّاط يدينون...". "استوقفَت عون الممارسات التي حصلت يوم استقال عبد الناصر...". "علّق ميشال عون على ما حصل...". "كان موقف عون قاطعًا...". "توجّس ميشال عون شرًّا...". "قدّم عون استقالته الخطّيّة...". ذكر عون: "مررتُ فوق الدامور (بالهليكوبتر) ورأيتها تحترق". ويوم استشهاد بشير "شعر في داخله أنّ حدثًا جللًا قد وقع"!!! 


علّق، توجّس، شعر، ذكر... كلّها أفعال سلبيّة انفعاليّة (Passives) وليس من بينها فعل واحد نَشِط (ِactif)، ومع ذلك، استنتج بقرادوني أنّ الضابط عون "ثورجيّ"!! وكم أساء إلى "الثورجيّ" عون حين عرّفنا بعقيدته القتاليّة المثلّثة الأبعاد: "إذا اعتدى لبناني على لبناني فأنا مع اللبناني المُعتدى عليه، وإذا اصطدم لبناني مع غير لبناني فأنا مع اللبناني، وإذا تواجه عربي وإسرائيلي فأنا مع العربي"!!! نِعمَ العقيدة، هي نفس ما كانت تعتقد به جدّتي: "أنا وخيّي عَ ابن عمّي، وأنا وابن عمّي عالغريب".


طبعًا توسّع كريم في معتقدات ميشال عون، فأوضح أنّه يعتبر "الجيش السوري جيش شقيق وأنّ العدو الوحيد هو إسرائيل"، وكأنّنا لا نعرف من قصف القصر الجمهوري في 13 تشرين الأوّل 1990 واحتلّ وزارة الدفاع، أو مَن نفى الزعماء المسيحيين وأودعهم السجون في "زمن احتلال إسرائيل لجنوب لبنان"!


"مهلًا، "خدنا بحلمك" مِستِر كريم،
لا يستطيع المرء أن يكون مع بشير من دون أن يكون له دور في معارك الأسواق و"الهوليداي إن" والكرنتينا (75 – 76)، وخلال حرب المائة يوم في الأشرفيّة، وفي توحيد البندقيّة المسيحيّة، وفي زحلة الأولى (75 – 76) وزحلة الثانية 1981...الخ ". 


المُلفِت في الكتاب، إمعان كريم في اختراع أدوار لميشال عون على حساب الأبطال الحقيقيين! فمعركة الكحّالة (آذار 1976) التي كانت بالفعل معركة وجود بالنسبة إلى المسيحيين، عزا كريم الانتصار فيها إلى "مدفعيّة عون المتمركزة في برمانا"، وعتّم على دور اللواء أنطوان بركات، الزغرتاوي، الذي له يعود الفضل في صمود هذه الجبهة، وفي إدارة العمليات العسكريّة عليها، كما وفي تنسيق الدفاع بين الأهالي والأحزاب المسيحيّة والجيش. في خضمّ المعركة، زار الشيخ بشير اللواء بركات ليقول له: "وضعنا ثقتنا فيك لإنقاذ الكحّالة". ولا أنسى دور الرئيس سليمان فرنجية في توجيه الأمر إلى الحرس الجمهوري لدخول هذه المعركة في ليلة كادت الجبهة فيها أن تنهار. أما التغطية المدفعيّة التي نسبها زورًا إلى ميشال عون، فقد تولّاها النقيب سليم كلّاس من مربض اليرزة، والرائد غبريال أرصوني من مربض بيت مري، بحسب مذكّرات اللواء بركات التي ليس فيها أيّ ذكر لعون في معركة الكحّالة. 
وكما سعى بقرادوني إلى التقليل من شأن المقاومين المسيحيين واللواء بركات لإبراز أدوار وهميّة لميشال عون، عمد إلى التقليل من شأن العماد ابراهيم طنّوس، لا بل قصد الإساءة إليه وتهميش دوره في إعادة بناء الجيش اللبناني، حتّى وصل به الأمر للإيحاء بأنّ هذا العماد الجبّار، كما يُعرف عنه، كان جبانًا، وكان يسعى إلى "فَدْرَلة" الجيش تمهيدًا "لفدرلة" لبنان، وهما أمران أبعد مَن يكون عنهما إبراهيم طنّوس. يدّعي كريم إنّ قيادة الجيش كلّفت عام 1976 لجنة رباعيّة لإعادة بناء المؤسّسة العسكريّة، ومن أعضائها طنّوس وعون اللذين اختلفا في الرؤية، فالأوّل أراد تفريغ الجيش وبناء أربعة جيوش فرعيّة مناطقيّة، بينما الثاني تمسّك بالحفاظ على وحدة الجيش. كلّ هذه الخبريّة ملفّقة، وأستطيع نقضها بحجتين دامغتين:
الأولى هي أنّ إبراهيم طنّوس كان في العام 76 لا يزال في البقاع، وتحديدًا يُدير المقاومة في زحلة حتّى أصيب بجروح بالغة في معركة تحرير قمم صنين، أواخر تشرين الأوّل، ما اضطرّه للمكوث شهرين في المستشفى بعدها. فمتّى يكون قد كُلِّف بإعادة بناء الجيش!!؟


والثانية هي أنّ العماد فيكتور خوري كلّف طنّوس بإعادة النظر بقانون الجيش مع المستشار القانوني إسكندر فيّاض، ومن دون عون، فعقدا أوّل اجتماع لهما في مجلس الشورى في 16 آذار 1977، حيث بلغهما عند الظهيرة نبأ اغتيال كمال جنبلاط. (مذكرات إبراهيم طنّوس غير المنشورة) أمّا عن كذبة طنّوس والتقسيم؛ فسأكتفي بنقل هذه العبارة من مذكرات الأخير: "أؤمن بالوحدة الوطنيّة وقرّرت أن أسخّر طاقتي وطاقات الجيش الذي سأبنيه للعودة بالبلاد إلى وحدتها الوطنيّة".


وزوّر كريم بقرادوني حين روى أنّ العماد طنّوس اقترح على الرئيس أمين الجميّل نقل مقرّي القصر الجمهوري ووزارة الدفاع إلى المتن الشمالي لعدم قدرة الجيش على حمايتهما، ما دفع العقيد ميشال عون إلى "ضرب يده على الطاولة" قائلًا: "أنا المسؤول عن حماية سوق الغرب وضهر الوحش إلى حين يصلكم الخبر أنّ العقيد عون وعناصر اللواء الثامن قُتلوا جميعهم". 


هل من داعي إلى تكذيب هذه الرواية ام الكذب واضح فيها؟ 
يكفيك معرفة أنّ لا صلاحيّة ولا رأي لقائد لواء (عون حينها) بمقترحات وخطط تُناقش بين رئيس الجمهوريّة وقائد الجيش! إضافة إلى ذلك، ورد في أكثر من مرجع أنّ العقيد عون كان يُدير جبهة سوق الغرب من مجمّع شاهين السكني في بعبدا، الأمر الذي أثّر سلبًا على معنويّات الجنود على الخطوط الأماميّة، وما دفع العقيدان الأميركيان المفصولان لتقديم المشورة لعون، إلى لفت نظر العماد طنّوس إلى عدم جواز إدارة الجبهة عن بُعد.


أمّا الرواية الحقيقيّة فهي التالية: "حضر إلى غرفة العمليّات قائد اللواء الثامن العقيد ميشال عون، وكان منهكًا ومعنوياته شبه منهارة، وأبلغ قائد الجيش بأنّه لم يعد بالإمكان الصمود أكثر من نصف ساعة... أيقظ قائد الجيش رئيس الجمهوريّة وضغط عليه لاستدعاء المبعوث الأميركي "روبرت ماكفرلين"، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، ولمّا حضر الأخير واجهه طنّوس قائلًا: يكفي أن تسقط سوق الغرب حتّى يسقط معقلان أساسيّان من معاقل الدولة اللبنانيّة، وزارة الدفاع والقصر الجمهوري... وهذه الهزيمة تتحمّلوها أنتم والرئيس الجميّل..."


في غضون ثلاث ساعات تبدّل الموقف الأميركي، وأُنشئ جسر جوي بين قبرص وجونية لمدّ الجيش بالسلاح والذخائر، وانقلبت بعدها مجريات المعركة. لكن كريم بقرادوني تابع تزوير الحقيقة وادّعى أنّ ميشال عون هو من اشترط على الرئيس تدخّل الأمريكان، فتدخّلت البارجة الأميركيّة "نيو جرزي" وحوّلت مجريات المعركة، وهذا أيضًا كذب!! الحقيقة هنا في مكان مختلف وأحتفظ بها إلى وقت آخر، وسأكتفي بطلب الرحمة للقاضي أسعد جرمانوس، وبالدعوة بطول العمر لـِ "أبو أرز"، اللذين كان لهما الفعل الفصل لحسم هذه المعركة. 
إلباس ميشال عون أدوار غيره لا تنتهي في الفصل الأوّل الذي توقّفت من بعده عن قراءة الكتاب، لكنّني ضحكت كثيرًا حين روى كريم عن دور عون في رأب الصدع بين المسيحيين بعد عمليّة الصفرا في 7-7-1980، إذ ادّعى أنّ "عون هو من أقنع الرئيس كميل شمعون بإعادة التواصل مع الكتائب والشيخ بيار الجميّل ولملمة الصفوف". كان بالإمكان تصديق هذه الرواية لو أنّي لم أسمعها نفسها، منذ أربعة أشهر، على لسان المحامي شارل غسطين أثناء مقابلة معه للوثائقي عن بشير الجميّل، فكلّ ما ذكره كريم بأنّ ميشال عون أنجزه، قام به غسطين شخصيًّا، وهو الذي تواصل مع الرئيس شمعون ورتّب لقاء المصالحة بطلب من كريم بقرادوني نفسه وبعض أعضاء المكتب السياسي الكتائبي، وقد جمعنا من الوثائق والفيديوهات ما يؤكّد رواية غسطين، وستظهر في الفيلم قريبًا.


كِذب في كِذب مع بقرادوني، وفي الخلاصة؛
ميشال عون في الكتاب هو عون آخر غير الذي نعرفه، ابتدعه كريم بقرادوني في خطوة استباقيّة تضمن ديمومة تياره من بعده على حساب أبطالنا المقاومين المسيحيين، وخدمةً للمحور الإقليمي السوري-الإيراني، وطمسًا لإجرامه بحقّ لبنان واللبنانيين.


أخبرني أحدهم يومًا أنّه كلّما عاد بقرادوني من مهمّة أوكلت إليه مع السوريين، كان أحد أقطاب الجبهة اللبنانيّة يقول: "عاد "استقردوني" من مهمته، والله يستر!" سألت محدّثي: "استكردوني" أو "استقرضوني"؟ فأجابني: "الاثنتان تفيان بالمعنى".


المصدر : Transparency News