جوزف بو هيا - كاتب سياسي


في الانتخابات الأخيرة، واجه النظام الإيراني ضربة قوية بعدما لم تتجاوز نسبة التصويت 40%، على الرغم من دعوات المرشد الأعلى علي خامنئي المتكررة لزيادة المشاركة الشعبية. هذا الانخفاض في نسبة التصويت مقارنة بانتخابات 2020 يشير إلى ضعف النظام من الداخل وتزايد التحديات التي يواجهها للبقاء في السلطة، وسط رفض واسع من قبل الشعب الإيراني وعدم الاستجابة لمعاركه الوهمية في صراعات غير مجدية. في ظل هذه الأزمة الداخلية، أصبحت إيران الآن، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى الدعم السياسي والاقتصادي من الغرب للحفاظ على استقرار نظامها. هذا الوضع قد يدفع إيران إلى تبني موقف أكثر مرونة تجاه القضايا الإقليمية وقبول تقليص نفوذها في دول مثل سوريا، لبنان، وفلسطين، مما يفسح المجال أمام تعزيز النفوذ العربي والقوة السعودية. أما بالنسبة لليمن، فإن الاتفاق السعودي-الإيراني أمّن ظهر المملكة وسيظل مصيره النهائي غير محسوم بسبب الدور الذي يلعبه الحوثيون في استراتيجية الولايات المتحدة ضد التجارة العالمية الصينية، وهو موضوع يستحق البحث في سياق آخر. أما العراق، فبفضل الروابط العميقة مع إيران، من المتوقع أن يظل تحت نفوذها كجائزة ترضية، لكن ضمن إطار شراكة مع الولايات المتحدة، حيث يحتفظ كل طرف بحق النقض (الفيتو) في السياسة الداخلية العراقية.

تشهد سوريا تحولاً جيوسياسياً بارزاً مع تراجع نفوذ إيران، وذلك نتيجة لتصاعد التنافس على النفوذ بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، روسيا، وتركيا، بالإضافة إلى الرغبة في إعادة الدور العربي إلى الساحة السورية من خلال السعودية. هذا الانحسار يأتي في وقت حيوي، حيث تظهر الحاجة الملحة لإعادة الإعمار في سوريا، وهي مهمة تبدو الدول الخليجية، بقدراتها المالية الكبيرة، الأكثر استعدادًا للقيام بها. التغييرات الجارية تلقي بظلالها على الأرض، مع التقارير التي تفيد ببدء الانسحاب التدريجي للمستشارين العسكريين الإيرانيين من الأراضي السورية. تعزز السعودية مكانتها في السياق السوري، خاصة بعد الخطوات الإيجابية التي شملت دعوة الرئيس السوري لحضور القمة العربية، والتحضيرات لإعادة فتح السفارة السعودية في دمشق. دخول السعودية إلى الساحة السورية لا يمثل فقط عودة النفوذ العربي، بل يعد أيضًا خطوة هامة نحو استقرار الوضع السياسي في سوريا وفتح الباب أمام جهود إعادة الإعمار الشاملة، في مقابل تقليص النفوذ الإيراني في دمشق.

في الساحة الفلسطينية، تجري مفاوضات بين حماس وإسرائيل حيث شهدت مطالب حماس تراجعًا، لتقتصر على السماح بإدخال المساعدات وإطلاق سراح بعض الأسرى ووقف مؤقت للعملية العسكرية. هذا التواضع في المطالب جاء نتيجة الضربات الإسرائيلية المستمرة التي أضعفت حماس ووضعتها في مواجهة سكان غزة. تحت ضغط أمريكي، وجدت إيران نفسها مضطرة للتخلي عن دعم حماس وإسقاط بدعة وحدة الساحات، مما أسهم في تغيير استراتيجية الحركة نحو البقاء السياسي مع تقليل وجودها العسكري. هذا التحول يأتي ضمن إطار تنظيمي أمريكي، الذي بدأ باستقالة الحكومة الفلسطينية لإعادة تشكيل حكومة جديدة تتضمن مشاركة حماس من خلال شخصيات تكنوقراطية لا تثير استفزاز إسرائيل. مع هذا التحول، تغادر إيران الساحة الفلسطينية بخروج جناحها العسكري عن الخدمة، وتدخل الدول العربية، بقيادة السعودية، لترتيب الأوضاع الداخلية وبدء عملية الإعمار. يأتي الاستقرار السياسي من خلال إعادة تفعيل مفاوضات السلام السعودية-الإسرائيلية، التي توقفت بسبب عملية طوفان الأقصى، لتثبيت هذه الترتيبات وتعزيز مسار السلام.

لنصل إلى لبنان، حيث يمثل حزب الله الوجود الأبرز لإيران في المنطقة، باعتباره استثمارها الرئيسي على مدى أكثر من أربعة عقود. من غير المتوقع أن تتخلّى إيران عن حزب الله بسهولة، وذلك قد يكون ثمنًا كبيرًا تدفعه للحفاظ على استمرارية نظام الملالي. الأحداث الأخيرة أظهرت أنّ حزب الله لا يمكنه اتّخاذ أيّ خطوات دون موافقة إيرانية، ممّا قلّل من الدور الذي كان يحاول الحزب تصوير نفسه به كقوّة إقليمية مستقلّة. الأزمة الإيرانية قد تمثّل فرصةً للبنان للتحرّر من دائرة الصراعات، حيث ترى إيران أنّ المكاسب المحتملة من المفاوضات أفضل بكثير ممّا قد تجنيه من النزاعات العسكرية. إسرائيل، من جهتها، تسعى بكلّ الوسائل لتأمين حدودها، كما أظهرت الحرب في غزّة استعدادها لتحمُّل تكاليف باهظة من أجل ذلك، بدعم شعبي واسع حتى في ظلّ الانتقادات لأداء نتنياهو. أيّ تورُّط إيراني عبر حزب الله في حرب سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة، قد تفقد إيران أكبر استثماراتها على الحدود الإسرائيلية. هذا الواقع يدفع حزب الله للتوافق على القرار 1701، حيث تهدف إيران حاليًا إلى تحقيق مكاسب داخلية من خلال المفاوضات، مثل الرئاسة ومناصب متقدّمة في الدولة، لضمان بقاء حزب الله وسلاحه بما لا يشكّل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل وللحفاظ على نفوذ سياسي إيراني يتعاون مع الدور العربي.
المشهد السياسي اللبناني يشهد عودة عربية، خصوصًا من السعودية، لتحقيق استقرار من خلال محاولة إيصال مرشح للرئاسة يمكنه تنفيذ القرار 1701 ورئيس حكومة قادر على التواصل مع جميع الأطراف الداخلية. برز الرئيس سعد الحريري، بخطابه المعتدل، كشخصية قادرة على الحوار مع مختلف الأطراف، ويظهر ذلك من الاجتماعات في بيت الوسط في ذكرى استشهاد رفيق الحريري. هذه التطوّرات تفتح الطريق أمام استثمارات عربية وتقليص دور إيران وحزب الله إلى مستوى مساوٍ لباقي الأطراف، ممّا يمثل تحوُّلاً عن السيطرة الإيرانية السابقة عبر الرئيس ميشال عون وغياب الدول العربية عن الساحة اللبنانية بين 2016 و2022.

الدور العربي، وبالأخص السعودي، يشهد اليوم تأثيرًا متزايدًا بعد فترة من الانكفاء الاستراتيجي بهدف إعادة تنظيم الشؤون الداخلية للعالم العربي. هذه الفترة من الترتيب الداخلي مكّنت إيران مؤقتًا من توسيع نفوذها الإقليمي. ومع ذلك، أسفرت هذه الترتيبات العربية عن ظهور قوة اقتصادية وسياسية عربية جديدة، تتمتع بعلاقات متوازنة مع الشرق والغرب على حدّ سواء. الآن، تعكس هذه الاستراتيجيات المتينة التي تمّ تطويرها خلال السنوات السابقة، توسيعًا للنفوذ العربي، مع التركيز بشكل خاص على الدور السعودي كقوّة مواجهة لإيران التي تجد نفسها في مأزق. إيران، التي تواجه تحديات جوهرية تهدّد استقرار نظامها وتلقى رفضاً لمشروعها الإقليمي، صرفت أموالًا طائلة لتحقيق أهدافها دون جدوى، ممّا أدى إلى تفاقم أزمتها الاقتصادية وشحّ مواردها المالية، هي اليوم في أمسّ الحاجة إلى التفاوض والتنازل وهذه فرصة المنطقة لعودتها إلى الحياة.

 

( الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )