خالد العزي


لا شك بأن "الوضع في أوكرانيا صعب جدًا، وهناك قتال شرس من الطرفين. حيث تسعى روسيا أولاً إلى تشتيت القوات الأوكرانية، وتحديدًا في المنطقة الشمالية الجنوبية لمدينة خاركيف. بدأت روسيا بشن هجوم على أوكرانيا منذ آذار الماضي، إثر نجاح فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية الخامسة. واعتبر بوتين أنه يخوض معركته بتفويض شعبي. ثانيًا، استغلت روسيا تقاعس الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في إمداد أوكرانيا بالسلاح، مما ساهم في أن يلتقط بوتين أنفاسه ويعيد ترتيب جيشه بعد أن كان قد بدأ يفقد زمام المبادرة. اليوم بدأ هذا الجيش يستعيد زمام المبادرة من خلال الهجمات التي يقوم بها، وأولها سقوط أفديفيكا وصولًا إلى القرى الصغيرة الواقعة على بعد 8 إلى 10 كيلومترات شمال أوكرانيا، شمال مدينة خاركيف. الجنوب الشمالي لأوكرانيا يتعرض من جديد لنكسة نتيجة التقاعس الأوروبي والخذلان الأمريكي. مما ساهم بفرار أكثر من 10 آلاف شخص ومغادرة قراهم في منطقة خاركيف في شمال شرق أوكرانيا التي باتت مجددًا تحت قبضة الروس منذ أن بدأت روسيا هجومًا بريًا مباغتًا قبل أكثر من أسبوعين. في حين أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن جيشها يواصل التقدم في شمال شرق أوكرانيا وأنه سيطر على 12 قرية في منطقة خاركيف خلال أسبوع.

فما هو السيناريو المتوقع لهذه الحرب المستمرة منذ سنتين؟ وما هي خطط روسيا المخفية الكامنة وراء هذا الهجوم السريع في مناطق خاركيف؟ فهذا الهجوم سمح لبوتين بتنفيذ ثلاث نقاط: الأولى باتجاه خاركيف، علمًا أنه لا يستطيع السيطرة عليها لأنها تتطلب أكثر من خمسين ألف عسكري، جهّزهم بوتين، لكنه يستطيع الضغط الميداني عليها، لما تعنيه هذه المدينة كونها ثاني أكبر مدن أوكرانيا. بالمناسبة، خاركيف كانت عاصمة أوكرانيا وتم تغييرها في الحرب العالمية الثانية لأنها سقطت سريعًا أمام الألمان. لذلك لن تكرر خاركيف التجربة خاصة وأن سكانها الذين كانوا موالين لروسيا، قاموا عام 2014 بتظاهرات تأييدًا لحسن الجوار مع روسيا وليس الحرب. إنما في عام 2022 كانت أكثر خسائر تلقاها الجيش الروسي في خاركيف الأوكرانية. النقطة الثانية تكمن في إبعاد الهجمات التي تتعرض لها مدينتا "بيلغورود وبريانسك" الحدوديتين من قبل القوات الأوكرانية، وتحديدًا الكتيبة التي تعتبر كتيبة روسية تقاتل إلى جانب الجيش الأوكراني. وفي هذا الإطار، بوتين يريد التوسع وإنشاء خط فاصل، أي منطقة عازلة يستطيع من خلالها استخدام المدفعية الفعالة في مواجهة خاركيف وليس بالصواريخ، وهذا يوفر لروسيا قدرات عالية جدًا في عملية المواجهة.
أما النقطة الثالثة والأهم، فإنه يريد التشدد في الشمال الشرقي لأوكرانيا كي تسحب القوات الأوكرانية جزءًا منها من الشمال الجنوبي وتحديدًا في منطقة دونيتسك لأن خطة بوتين هي التوجه إلى دونيتسك ولوغانسك. يريد بوتين استغلال هذه الفترة للسيطرة عليهما بالكامل ويكسب الوقت بسبب ضعف الإمدادات الغربية لأوكرانيا. رغم ذلك، استطاع الجيش الأوكراني تكبيد الروس خسائر كبيرة وتجميد الهجمات والمحافظة على خطوط الدفاع، والأهم أنه استهدف مناطق في جزيرة القرم بالطائرات المسيرة خلف خطوط الروس".
إذن، أوكرانيا تنتظر وصول السلاح الأمريكي بفارغ الصبر، ولذلك ستمتد هذه المعركة من ثلاثة أسابيع وصولًا إلى ثلاثة أشهر وستكون صعبة، لكن أوكرانيا ستصمد وتدافع وسيكون التراجع بطيئًا، والأهم أن السلاح سيصل. في المقابل، سيعمد بوتين إلى احتلال مناطق إضافية من أجل محاولة التفاوض. لقد حاول في الشتاء المنصرم انتزاع منطقة أوديسا لكنها صمدت، واليوم تتعرض مدينة خاركيف لهذه الأعمال لكنها ستصمد أيضًا. يعتبر البعض أن سقوط أوديسا أو خاركيف سيسمح له بالتفاوض مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على نقطة مهمة جدًا، وهي أن يبقى الوضع كما هو عليه في المحافظات الخمس التي أعلنها في الدستور كأجزاء من روسيا. سيتم التفاوض على الانسحاب من الخطوط الجديدة في كل من "خاركيف أو ميكولايف أو أوديسا"، الذي يظن بوتين أنه يستطيع السيطرة عليها. وبحسب سير المعارك، يرى المتابعون أنه لن يستطيع تأمين جيش كامل لاحتلال خاركيف، بل يسعى إلى إلهاء الأوكرانيين في خاركيف لتحقيق نجاحات في مناطق الجنوب، أي دونيتسك ولوغانسك، اللتين ما زالتا جيوبًا لم يستطع الوصول إليها. يعزز بوتين نشاطه بتشكيلة جديدة في الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الحرب، التي تبلورت في إقالة وزير الدفاع سيرغي شويغو وتعيين أندريه بيلوسوف خلفًا له، والذي يُعتبر من المشرفين على التصنيع الحربي. يعني هذا أن بوتين عازم على إعادة التجهيز العسكري، ظنًا منه بأن الحرب التي سيقودها ستكون لوجيستية تكتيكية عبر صناعات جديدة ومتطورة بالسلاح والطائرات. بنفس الوقت، عين شويغو سكرتيرًا للأمن القومي، أي أنه أبقى على فاليري غيراسيموف في هيئة الأركان، كي لا يقال إنه حقق مطالب يفغيني بريغوجين حتى في قبره. لسكرتير الأمن القومي رتبة أعلى من قيادة الجيش. وبالتالي، تخلى عن حليفه وصديقه نيكولاي باتروشيف الذي كان يشغل هذا المنصب، ويقال أن باتروشيف دفع ثمن الحرب في أوكرانيا نتيجة التقارير الخاطئة التي قُدمت لبوتين عن أحوال أوكرانيا لأنه الوحيد الذي كان مخولًا للتقابل مع بوتين والمناقشة معه بطريقة ندية بعكس كل الوزراء".
خاركيف تبقى نقطة مشتعلة، لكن الاقتراب الروسي من احتلالها أصبح مستحيلًا، لأن الجيش الأوكراني جاهز للتصدي. لم تكن زيارة الرئيس فولوديمير زيلينسكي منذ أيام إلى خاركيف التي تعرضت لأكثر من 153 هجومًا روسيًا خلال الأسبوع الأول للهجوم، زيارة عادية وليس لرفع المعنويات، إنما رسالة للغرب وللداخل بأن الرئيس الأوكراني سيبقى صامدًا بغض النظر عن كل الهجمات ولن يتخلى عن خاركيف. سيعيد بناء استراتيجية جديدة واضحة رغم الخسائر في الأرواح والنقص في المعدات التي لا يزال الغرب غير جاهز لتأمينها بالرغم من الاتفاقات المبرمة بينهم لكنهم أخلوا بوعدهم. الزيارة أيضًا رسالة للغرب بأن لا معنى لأي تحالف دولي أو للناتو إذا سقطت أوكرانيا. بالتالي، ستكون المعارك أكثر حماوة وتصعيدًا. بانتظار ما يتم الاتفاق عليه في 19 حزيران القادم في مؤتمر سويسرا للسلام في أوكرانيا.

إذن، المساعدات العسكرية التي أعلنت واشنطن بأنها ستصل تدريجيًا ستؤمن لأوكرانيا أولًا الضرب في العمق الروسي، ما سينعكس سلبًا على موسكو، وثانيًا تأمين حماية لأوكرانيا من الهجمات العشوائية التي تشنها روسيا وتسمح لها بضرب أهداف بعيدة المدى، والتركيز على شبه جزيرة القرم لأن المساعدات الغربية واللوجستية البريطانية ستؤمن فعليًا إخلاء الأسطول الحربي الروسي من شبه جزيرة القرم. بالتالي، على الغرب أن يعي أن صمود أوكرانيا يعني استقلالية القرار الأوروبي المستقل عن روسيا والولايات المتحدة. من هنا لم يكن كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عاديًا عندما أعلن أن فرنسا ستضطر إلى إرسال قوات عسكرية إذا سقطت الخطوط الأمامية الأوكرانية وسيحذو حذوها البريطانيون. أيضًا كان تصريح الأستونيين ملفتًا للانتباه بأنهم سيذهبون للدفاع عن أوكرانيا، وهذا ما أخاف الطبقة العسكرية والسياسية المحيطة بقصر الكرملين من دخول الحرب مرحلة الصراع مع الناتو. لذلك أطلقوا مواقف سريعة بمعنى أنهم سيستخدمون النووي، فهذا من أجل الضغط على ماكرون لسحب كلامه. لكن ماكرون كان واضحًا عندما قال إننا لن نخوض حربًا ضد الشعب الروسي ولا ضد روسيا نفسها، وإنما نريد أن ندافع عن أوكرانيا ولن نسمح بسقوط أوكرانيا والسيطرة الروسية كي لا تصبح أبوابنا مشرعة لبوتين".

(الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News")


المصدر : Transparency News