يعاني المسيحيون النازحون من القرى الحدودية في جنوب لبنان من رحلة طويلة ومؤلمة، حيث أجبرت العائلات على ترك بيوتها وأراضيها والنزوح نحو بيروت أو قرى جنوبية أكثر أماناً. تتشارك هذه العائلات همومها ومعاناتها اليومية مع آلاف العائلات الجنوبية الأخرى، حيث أصبح من الشائع أن نجد أكثر من عائلة تعيش في بيت واحد. بينما تستمر الحرب في تهديد حياتهم ومصادر رزقهم، يظل السؤال قائماً: إلى متى ستبقى هذه العائلات صامدة في وجه الصعاب دون دعم حقيقي من الحكومة أو الأحزاب السياسية؟


رحلة من المعاناة يعيشها الكبار والصغار من المسيحيين النازحين من القرى الحدودية مع إسرائيل في جنوب لبنان. عائلات أُجبرت على ترك بيوتها وأرزاقها وأراضيها، لتتجه نحو بيروت أو قرى جنوبية أخرى أكثر أماناً. هذه العائلات تتشارك مع آلاف العائلات الجنوبية ليس فقط الهموم نفسها، بل الغرفة نفسها، حيث ليس من النادر أن نجد أكثر من عائلة تعيش في بيت واحد.

كما هو الحال في القرى الشيعية والسنية، كذلك في القرى المسيحية، ولكن مع فارق يشعر به المسيحيون في الجنوب الذين يرون أنفسهم «منسيين»، فلا أحد يسأل عنهم. هذا هو لسان حال العديد من المسيحيين الذين عانوا كثيرًا خلال حرب تموز 2006، ويتذوقون اليوم المر من جديد. في هذا الوقت، لا تزال أكثر من 3000 عائلة صامدة في بيوتها في البلدات المسيحية الجنوبية مثل علما الشعب، القليعة، جديدة مرجعيون، دير ميماس، كوكبا، راشيا الفخار، برج الملوك، رميش، عين إبل، دبل، القوزح، ويارون.

مساعدات شحيحة

نوال أبي إيليا، مسؤولة قسم الروضات في مدرسة «القلبين الأقدسين» في مرجعيون، تسلط الضوء على الوضع الصعب الذي يعيشه السكان في الجنوب اللبناني. تقول نوال: «لا مساعدات فعليّة، ماديّة أو عينية، ولم يسأل أي طرف عنّا. حصلنا فقط على مساعدات مرتين من الصليب الأحمر الدولي على شكل حصص غذائية، ولكن لم يلتفت أحد لسكان القليعة ودير ميماس وغيرها من القرى الحدودية». وتشير إلى أن «حزب الله» قدم حصة غذائية صغيرة لمرة واحدة منذ بداية الحرب وحتى اليوم.

على الصعيد التعليمي، لم تفتح معظم المدارس في القرى الجنوبية أبوابها، مما أجبر الطلاب على التعليم عن بُعد. نزوح العائلات تسبب بمشكلة كبيرة للعاملين في المدارس وللمدرسين، حيث تدنى أجر الساعة من 5 إلى 3 دولارات، وفقاً لنوال. وأضافت أن أغلب المزارعين تركوا أراضيهم، التي احترق جزء كبير منها، بينما مُنعوا من الاقتراب من الجزء الآخر.

وتضيف نوال أن الأطفال أصبحوا يعيشون في عالم افتراضي بعد انقطاع العلاقات الاجتماعية بسبب الخوف، وأصبحوا معتادين على ضجيج اختراق جدار الصوت، ويستطيعون التمييز بين الصواريخ المنطلقة من لبنان وتلك الموجهة نحوه.

تقول نوال بمرارة: «كجنوبية، أصبحت حياتي عبارة عن حقيبة تحوي أغراضي الأساسية، من جواز السفر إلى الأوراق الثبوتية والملف الصحي، إضافة إلى بعض الحاجيات. هذه الحقيبة حاضرة دائماً تحسّباً لأي مكروه».

غياب كامل للدولة

شربل العلم، حلاق من بلدة رميش، يوضح الجهود الكبيرة التي تبذلها بلدية رميش تجاه أبناء البلدة في ظل غياب تام لأي دعم من الأحزاب أو الجهات السياسية. يقول شربل: «في عام 2006 لم يتم التعويض على رميش، فهل سيكون مصيرها في 2024 مختلفًا؟».

شربل يكشف عن حجم الضرر الكبير الذي لحق بالبلدة، حيث تضررت البيوت والحقول والمزروعات بشكل كبير. ويضيف بأسف: «أغلب حقول الزيتون احترقت، ولا نستطيع الذهاب إلى أراضينا بسبب القصف». ويتابع قائلاً: «نزحنا إلى أقاربنا في بيروت، وعشنا 9 أشخاص في بيت واحد».

وعن المساعدات، يشير شربل إلى الغياب الكلي للدولة والحكومة، حيث كانت المساعدات الغذائية الوحيدة التي حصلوا عليها من البلدية، التي أمّنتها بدورها من الجمعيات، إضافة إلى حصص غذائية قدمها الصليب الأحمر الدولي أربع أو خمس مرات منذ بداية الحرب.

ويؤكد شربل أن الوضع في رميش لا يختلف كثيراً عن الحال في علما الشعب ويارون، حيث تضرر «حي المسيحيين» بشكل كبير. ويختتم بالقول: «المسيحيون في القرى الجنوبية خارج الحسابات».

زراعة ومواشٍ

بلدة القوزح شبه خالية، إذ لم يبق فيها سوى خمس عائلات فقط. حاول البعض العودة إلى البلدة لحراثة أراضيهم وزراعتها، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب القصف المستمر، كما أوضح غطاس فلفلي، رئيس بلدية القوزح السابق. وأشار إلى أن أصحاب المواشي اضطروا لبيعها دون تعويض، وكذلك المزارعون الذين احترقت أراضيهم، مما منعهم من زراعة محاصيل القمح والتبغ المعتادة وخسروا موسم الزيتون.

يضيف فلفلي أن خمس عائلات من القوزح تنام في «جمعية هديل» في أنطلياس، بينما تقيم عائلات أخرى عند أقاربها أو استأجرت بيوتاً في بيروت. وأوضح أن المبادرات من الأحزاب المسيحية كانت خجولة جداً، ولم يتكفل أحد بتغطية إيجار أي منزل.

«هذه أرضنا ولن نتركها»

في بلدة علما الشعب، رفضت عائلة لوريس الحداد وزوجها جميل جرجس الحداد مغادرة أرضها. جميل، مؤهل متقاعد في قوى الأمن الداخلي، يقول: «إذا لم نولِ قيمة لأرضنا ولإخوتنا الذين رحلوا، وإن لم نتمسك بأرضنا، فأي قدوة سنكون لأولادنا؟». ويضيف: «قررنا منذ أول أيام الحرب أن نبقى، وهذه الأرض لنا ولن يأخذها أحد منا».

يعبر جميل بصوت تخنقه الغصة عن الألم الذي أصاب البلدة: «علما الشعب من أجمل قرى لبنان، لكن الحريق قتلها. أغلب الكروم احترقت، وكذلك بساتين الزيتون واللوز والفواكه بسبب الفوسفور. الحرائق امتدت إلينا، وحتى بيوتنا لم تسلم من القصف، حيث دُمّر أكثر من 18 بيتاً بالكامل».

يستمر جميل في وصف معاناة السكان، قائلاً: «لا توجد كهرباء في علما الشعب منذ 8 أشهر، والسكان الذين قرروا البقاء، وعددهم 93 شخصاً فقط، يعانون من شح المازوت وقطع المياه. لا يوجد في البلدة سوبر ماركت ولا ملحمة، وعندما يهدأ القصف قليلاً نذهب إلى صور لشراء احتياجاتنا».

لوريس، زوجة جميل، تضيف: «المساعدات التي وصلتنا عبارة عن حصص غذائية من مؤسسة كاريتاس مرة، ومرتين من البلدية ومن الصليب الأحمر اللبناني. أما الكنيسة، فكان اهتمامها بزيارة راعي أبرشية صور للموارنة المطران شربل عبد الله، الذي زار البلدة خمس مرات منذ بداية الحرب، وتم توزيع 50 دولاراً لكل شخص تبرع بها مغتربون، قام بتوزيعها مرة واحدة أبونا مارون، مسؤول كاريتاس».

نزح أغلب المسيحيين من القرى الجنوبية إلى بيروت، لكن عدداً كبيراً منهم يعودون اليوم إلى قراهم رغم استمرار الحرب والخوف والقصف، بسبب عدم قدرتهم على الاستمرار في بيروت نظراً لارتفاع الإيجارات. أغلب النازحين يعملون في الجنوب، ولم يسأل عنهم أحد من الحكومة، التي تعد مستقيلة فعلاً من هموم المسيحيين في الجنوب، وكذلك الأحزاب المسيحية والأحزاب الأخرى على اختلافها.

 


المصدر : الشرق الأوسط