يوسف مرتضى - كاتب سياسي


في ختام زيارته الحادية عشر إلى الشرق الأوسط متابعة للحرب على غرة، حمل معه وزير خارجية أميركا أنطوني بلنكن صيغة معدّلة لاقتراح بايدن من أجل هدنة صفقة التبادل بين العدو الصهيوني وحماس في غزة. وبعد اجتماعه لثلاث ساعات مع نتنياهو، أعلن بلينكن عن موافقة هذا الأخير على الصيغة المعدّلة للصفقة، مردفاً أن الكرة أصبحت بمرمى حماس.

على الأثر اتصل بايدن بالرئيس المصري وبأمير قطر، لحثّهما للضغط على حماس لتمرير الصفقة بحلتها الأخيرة.

 فجر الأحد في ٢٥ آب أي اليوم المقرر لمتابعة مفاوضات الوسطاء لترتيب الصفقة في القاهرة، حصلت مسرحية ما سمي بالهجوم الاستباقي الإسرائيلي على طول الشريط الحدودي مع لبنان، وعملية الأربعين الثأرية لحزب الله على مقتل القيادي فؤاد شكر. 

في نهاية ذاك اليوم لم تؤتِ مفاوضات القاهرة ثمارها بسبب تمسّك الجانب الإسرائيلي بشروطه بعدم الانسحاب من معبري نتساريم وفلاديلفي، لكن مع الوعد بأنها سوف تستأنف!؟

 نتيجة مفاوضات القاهرة جاءت متناقضة مع ما روج له بلينكن حين قال في تصرحين له، في تل أبيب وفي قطر :

"وافقت إسرائيل على انسحاب قواتها من قطاع غزة، وعلى المواعيد والأماكن المحددة في الصفقة. وأن الجهود للتوصل إلى اتفاق هي على الأرجح الخيار الأفضل، والأخير على الأرجح".

وفق تصريح بلينكن يبدو واصحاً أن مثل هذه الصفقة مهمة للغاية بالنسبة للإدارة الديمقراطية الأمريكية. فالحرب في غزة التي دخلت شهرها الحادي عشر دون أن يتمكن نتنياهو من تحقيق أهدافه المعلنة فيها، ورغم دعم إدارة بايدن غير المحدود له، وإن كان ذلك لم يقوض مواقف القيادة الأميركية، غير أنه أحدث شرخاً داخل الحزب الديمقراطي بين مؤيدين للدعم غير المشروط لإسرائيل، وآخرين يدعون لوقف المجزرة ضد الفلسطينيين . وبسبب فشلها في غزة، تنقل إدارة نتنياهو الحرب إلى الضفة الغربية تهجيراً واستيطاناً ،ما يعقّد الوضع ويزيد من إحراجات الإدارة الأميركية، المنصبة اهتماماتها على الانتخابات الرئاسية في السباق ببن ترامب وكمالا هارس إلى البيت الأبيض.

ربما لا يكون هذا الوضع في الشرق الأوسط أقل سمية بالنسبة للديمقراطيين الأميركيين من الحرب في أوكرانيا، التي ترمي بثقلها أيضا كواحدة من القضايا الرئيسية خلال الحملة الانتخابية. 

من هذه الخلفية، أرى أنه يمكن أن تشكل الهدنة في غزة عاملاً مساعداً لهارس في تنافسها مع دونالد ترامب، الذي يتهم الديمقراطيين بعدم مساعدة إسرائيل بما فيه الكفاية والسماح للوضع الذي باتت عليه إسرائيل .

والأمر الأكثر إزعاجاً بالنسبة لواشنطن هو أن إحجام إسرائيل عن الموافقة على الهدنة يضعها عشية الانتخابات في موقع محرج اتجاه قوى في الداخل والخارج، رغم ما يتردد عن مسؤولين في الإدارة الأميركية بأن هذه الإدارة لا تمتلك الوسائل الكافية للضغط على نتنياهو. بل على العكس من ذلك، فإن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة قوي إلى الحد الذي يجعل حتى الديمقراطيين،الذين يؤيد ناخبوهم وقف الإبادة ضد الفلسطينيين إلى حد كبير، غير قادرين على التشكيك في المساعدات المقدمة لإسرائيل، الأمر الذي يؤدي أكثر فأكثر إلى تآكل قاعدتهم الانتخابية.

فهل ينجح الديمقراطيون في المحصلة بإقناع نتنياهو بالمساعدة ، من خلال تنفيذ شروط الهدنة لوقف هذا التآكل ؟

بات واضحاً أن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة قد وصلت حتى اليوم إلى طريق مسدود: فالأهداف المعلنة لم تتحقق، ومن الواضح أنها لن تتحقق. ونتنياهو يتصرف بالعلن بما لايزيد من إزعاج الإدارة الأميركية تماماً، حتى لو رحلت. بالإضافة إلى ذلك، يمارس أهالي المحتجزين والرهائن والمعارضة السياسية ضغوطًا كبيرة عليه داخل البلاد. وفي المقابل المتطرفون المؤيدون للحرب حتى النهاية، يهددونه بانهيار التحالف إن هو وافق على الهدنة.

بضوء ذلك يعيش نتنياهو ظروفاً صعبة ومعقدة ، لم يتمكن بعد من إيجاد مخرج آمن لمستقبله السياسي، وهو مطالب في ذات الوقت ببعض الوفاء لإدارة بايدن التي وقفت إلى جانبه بأحلك الظروف ولم تزل. لذلك نلحظ بقوة مواقفه المتقلبة بالعلاقة معها.

ففي اليوم التالي مباشرة بعد خطاب بلينكن مثلاً، رفض مكتبه بشدة المعلومات التي تفيد بأن القوات الإسرائيلية مستعدة لمغادرة ممر فيلادلفي.

ورغم مواصلة المفاوضات التقنية بين الدوحة والقاهرة، فإنه حتى كتابة هذه السطور لم يحصل أي اتفاق، وليس هناك سوى تصريحات بلينكن، والتي يمكن اعتبارها رغبات واشنطن. 

إن الإدارة الأميركية الماسكة بخيوط هذه الأزمة، باتت تدرك أن فريقي الصراع بحاجة إلى مرحلة من الراحة ، بما في ذلك القوى الداعمة للمقاومة الفلسطينية من خارج الميدان، بما في ذلك إيران ، التي بادر مرشدها في اليوم التالي لمسرحية ال٢٥ من آب، بإعطاء الضوء الأخضر لحكومة بزشكيان، مباشرة المفاوضات حول الملف النووي. والجميع يدرك أن جُلّ ما تطرحه مبادرة بايدن بالنسبة للحرب على غزة، ليس إلا وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، ولكن بالنسبة للبيت الأبيض قد يكون بمثابة خشبة الخلاص لزيادة عدد المؤيدين لوصول كمال هارس إلى سدة الرئاسة. وربما تأمل واشنطن من خلال مبادرتها في إقناع نتنياهو باستمرار الدعم غير المشروط بعد فوز هاريس.

ولكن ماذا لو فاز ترامب؟ فهل يسامح نتنياهو على الصفقة التي أبرمت من دونه والتي هدفت إلى مساعدة خصومه؟ وهو لم ينس كيف كان بيبي أول من هنأ بايدن بفوزه عام 2020. فهل نتنياهو مستعد للتعبير بوضوح عن تعاطفه مع هارس عشية الانتخابات، وليس بعدها؟

وفي كل الأحوال، بجمع المراقبون على أن صفقة غزة إن حصلت ستكون حلاً مؤقتاً، ولن تميل استدامتها بعد الانتخابات الأميركية إلى أكثر من الصفر. 

 


المصدر : Transparency News