جوزف بو هيا


تمثل إيران، في ظل نظام الملالي الذي يقوده العقل السياسي الفارسي، نموذجًا لاستراتيجية توسعية عميقة تتقن توظيف الدين والشعارات القومية لتحقيق أهداف جيوسياسية بعيدة المدى. من خلال استغلال قضايا دينية حساسة كتحرير القدس ومحاربة إسرائيل، تتستر إيران خلف هذا الخطاب الأيديولوجي لتوسيع نفوذها في العالم العربي، حيث يكمن الهدف الحقيقي في تعزيز الهيمنة الفارسية على المنطقة، وليس تحقيق الشعارات المعلنة.

العقل الفارسي المتجذر في التاريخ الإمبراطوري لبلاد فارس، يعمل على استغلال المشاعر الدينية وتقديم الدعم للتيارات التي تنادي بمقاومة إسرائيل بهدف كسب التأييد الشعبي في الدول العربية. إلا أن هذا الدعم ليس إلا واجهة لأجندة توسعية تهدف إلى السيطرة على العالم العربي وتحويله إلى ساحة نفوذ فارسي خالص.

 

1- القناع الأيديولوجي والديني: يتبنى النظام الإيراني استراتيجية ذكية تقوم على استخدام الدين والتشيع كسلاح أيديولوجي ضمن إطار "ولاية الفقيه"، مما يتيح له التغلغل في المنطقة العربية. قضية القدس وفلسطين تُستغل كقضية قومية جامعة تُثير مشاعر المسلمين بهدف تجنيد الدعم الشعبي. في الوقت نفسه، يتم الترويج للعداء تجاه إسرائيل كجزء من أيديولوجية المقاومة الإسلامية، دون نية حقيقية للانخراط في صراع مباشر معها. هذا العداء الظاهري ليس سوى أداة لتغطية التمدد السياسي الفارسي في المنطقة. التقارير الدولية تؤكد أن الدعم العسكري الإيراني لحزب الله أو الفصائل المسلحة في العراق وسوريا لا يتجه نحو مواجهة إسرائيل، بل يُستخدم لتعزيز النفوذ داخل هذه الدول. فالتحويلات المالية والتسليحية الإيرانية للفصائل المدعومة تستهدف تقوية النفوذ السياسي الإيراني في هذه الدول وليس مواجهة إسرائيل.

 

2- التمدد الجيوسياسي المقنع: بينما يعلي الخطاب الإيراني من شأن قضية "المقاومة"، يكشف الواقع أن الأهداف الحقيقية تكمن في السيطرة الفعلية على الدول العربية المحيطة. يتضح هذا من خلال التدخل المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية لدول مثل العراق ولبنان وسوريا. هذه التدخلات تتخذ أشكالاً متنوعة، بدءًا من دعم الميليشيات المسلحة مثل حزب الله، وصولاً إلى تعزيز النفوذ السياسي عبر دعم التيارات الموالية لإيران. التغلغل الفارسي في هذه الدول لا يسعى إلى مواجهات عسكرية مباشرة مع إسرائيل، بل إلى خلق بنى سياسية واجتماعية موالية للنظام الإيراني. نرى أن إيران تعتمد بشكل متزايد على ما يُعرف بـ"الحروب بالوكالة"، حيث تستخدم جماعات محلية لفرض هيمنتها دون الدخول في مواجهة مباشرة، مما يهدد "التوازن الإقليمي" في الشرق الأوسط.

 

الإرث الإمبراطوري المغلف بالدين: العقل الفارسي السياسي لا ينفصل عن جذوره الإمبراطورية التاريخية. فبينما يروج النظام الإيراني لخطاب ديني، نجد أن هذا الخطاب ليس سوى امتداد لنزعة توسعية قديمة تهدف إلى إعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية في إطار "الحنين الإمبراطوري"، ولكن هذه المرة مغلفة بالدين والمذهب الشيعي. تحت غطاء محاربة إسرائيل، تسعى إيران إلى إضعاف النظام العربي وتفكيك الهياكل السياسية والاقتصادية للدول العربية، لتستبدلها بهياكل جديدة تخدم مشروع الهيمنة الفارسي. الخطة تقوم على استغلال الدين كأداة لترسيخ نفوذ سياسي واقتصادي دائم، ما يجعل إيران شريكًا قسريًا في مستقبل المنطقة، مستخدمةً الشيعية السياسية لخلق موطئ قدم لها في هذه الدول.

 

الأهداف الإيرانية الحقيقية:

- إعادة بناء النفوذ الفارسي في العالم العربي عبر السيطرة على الدول المجاورة وتقويض استقلالها.

 

- إضعاف الحكومات المركزية وإحلال ميليشيات وجماعات موالية للنظام الإيراني محل الأنظمة السياسية القائمة.

 

- السيطرة على الموارد الحيوية في المنطقة، بما في ذلك الطاقة والمواقع الجيوسياسية الحساسة.

 

 

تعتمد الإستراتيجية الإيرانية على استغلال نقاط الضعف الداخلية في الدول العربية، سواء كانت أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. من خلال التدخل في الأزمات الداخلية، تخلق إيران موطئ قدم لنفسها في هذه الدول، وتبدأ في بناء نفوذ تدريجي يضعف الحكومات المركزية ويقوض قدرتها على الحفاظ على الاستقلال والسيادة. في الوقت نفسه، يستمر النظام الإيراني في استغلال الخطاب المعادي لإسرائيل كأداة سياسية لتشتيت الانتباه عن أهدافه الحقيقية وجذب الشعوب المتعاطفة مع القضية الفلسطينية المحقة.

 

 

لمواجهة هذه الإستراتيجية:

تواجه الدول العربية القوية، وعلى رأسها السعودية، تحديًا في إعادة جذب الدول التي تُركت لسنوات تحت الهيمنة الفارسية، بحيث يصبح تعزيز الجماعات الموالية للمحور العربي في لبنان وسوريا والعراق ضرورة استراتيجية. فهذه الدول تشكل نقاط قوة تضيف زخمًا للوحدة العربية في مواجهة التحديات الإقليمية.

 

1- التمسك بالعروبة كنمط حياة وتعايش: لمواجهة هذا التغلغل الفارسي، يتطلب الأمر من الشعوب العربية إعادة الاعتبار للهوية العربية، والتأكيد على أنها القاسم المشترك بين مختلف الشعوب والمذاهب. العروبة ليست مجرد شعارات قومية، بل هي نمط حياة وتعايش يعتمد على الروابط الثقافية والتاريخية العميقة التي تجمع العرب. التمسك بهذا النموذج كبديل عن الخطاب الطائفي الذي تستغله إيران هو السبيل الأمثل لمواجهة التأثير الفارسي المتزايد.

 

2- التوحد السياسي خلف قيادة قوية: اليوم، تعتبر المملكة العربية السعودية القوة المحورية في العالم العربي التي تستطيع توجيه دفة القيادة نحو الاستقرار والتنمية. السياسة السعودية تتسم بالواقعية السياسية، حيث تسعى إلى تشكيل "تحالف جيوسياسي عربي" لمواجهة التمدد الإيراني والتصدي للمشروع الفارسي الذي يهدد المنطقة. المملكة، بما تملكه من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري، تمثل العمود الفقري للتحرك العربي المشترك في مواجهة التمدد الإيراني. من الضروري أن تتوحد الدول العربية خلف القيادة السعودية التي أظهرت التزامًا جادًا تجاه تعزيز الأمن القومي العربي ومواجهة المخططات الخارجية. توحيد الجهود تحت مظلة قيادة قوية سيعزز من قدرة العرب على مواجهة النفوذ الإيراني وتحجيمه.

 

 

3- التطور العلمي والاقتصادي: بعيدًا عن الصراعات الأيديولوجية، يجب أن تتوجه الدول العربية نحو التطور العلمي والتقني كأحد ركائز بناء القوة الذاتية. من خلال تعزيز الاقتصاد وتطوير البنية التحتية للتعليم والبحث العلمي، يمكن للعرب أن يبنوا مجتمعات قوية وقادرة على مواجهة التدخلات الخارجية. الاعتماد على الذات اقتصاديًا سيمكن الدول العربية من التصدي للضغوط الإيرانية وتقليل تأثيرها في الساحة الإقليمية.

4- التكامل العسكري العربي: إحدى وسائل المواجهة الأساسية تتمثل في تعزيز التحالف العسكري العربي، حيث تلعب السعودية دورًا محوريًا في بناء القدرات العسكرية للدول العربية. تكوين جيش عربي مشترك يهدف إلى الدفاع عن الأمن القومي العربي وحماية الحدود من التدخلات الإيرانية بات ضرورة ملحة. مثل هذا التحالف سيضمن أن تكون المنطقة محصنة ضد أي محاولات تغلغل أو تدخل عسكري من قوى خارجية.

التجارب السابقة، مثل التحالف العربي في اليمن، أظهرت كيف يمكن لقوة عربية بقيادة السعودية أن تكون عامل استقرار في المنطقة. وفقًا لتقارير أمنية نشرت في "مجلة الشؤون العسكرية الدولية" لعام 2021، فإن التحالف العربي يمثل نموذجًا يمكن تعزيزه وتوسيع نطاقه ليشمل حماية المصالح العربية من التدخلات الإيرانية.

 

في الختام، يُدرك العقل الفارسي السياسي، بقيادة إيران، كيف يستغل الشعارات الدينية والطائفية لتحقيق طموحات توسعية ضاربة بجذورها في التاريخ. إلا أن التصدي لهذا المشروع ليس بالمستحيل، والدليل الواضح على ذلك هو استمرار مجموعات في لبنان بالمقاومة، رغم كل أساليب الترهيب والقمع التي تمارسها إيران بحقها. إذا ما تمسكت الشعوب العربية بهويتها القومية وتوحدت خلف قيادة سياسية قوية مثل المملكة العربية السعودية، فإن هذه التطلعات الفارسية يمكن إحباطها. التوحد خلف قيادة لا يعني التبعية أو التنازل عن السيادة، بل يشير إلى تآزر متين يحافظ على استقلال كل دولة ومؤسساتها الوطنية، ويحولها إلى قوة دفع في مواجهة المشروع الفارسي. من خلال هذا التماسك العربي، يمكن بناء جبهة قوية قادرة على حماية المصالح العربية وصدّ كل محاولات التغلغل التي تهدد استقرار الدول العربية ومستقبلها.