جوزف بو هيا


تشهد منطقة الشرق الأوسط تجددًا في التوترات، حيث يبدو أن إسرائيل تسعى إلى إعادة تطبيق استراتيجياتها العسكرية والسياسية التي استخدمتها سابقًا في قطاع غزة. كان الدخول البري إلى غزة بمثابة نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، حيث تمكنت إسرائيل من الاستمرار في حرب طويلة رغم الخسائر البشرية الكبيرة، وهو ما خالف توقعات العديد من المراقبين. تشير هذه الاستراتيجية إلى تحول كبير في العقلية والعقيدة العسكرية الإسرائيلية على مدى السنوات الأخيرة، إذ أصبحت إسرائيل أكثر استعدادًا لتحمل الخسائر إذا كان ذلك سيسهم في تحقيق أهدافها السياسية والأمنية.


اليوم، يبدو أن إسرائيل تسعى لتكرار سيناريو غزة في جنوب لبنان، مع تركيزها هذه المرة على حزب الله كهدف رئيسي. رغم التهديدات والضغوط المستمرة من "محور الممانعة" المتحالف مع إيران، والذي يبدو غير قادر على تقديم بديل استراتيجي حقيقي، تسعى إسرائيل إلى تدمير قدرات حزب الله وتعزيز نفوذها في المنطقة، وضمان عدم عودة أي تنظيمات مسلحة أخرى، مثل حماس، للتمركز على حدودها الشمالية.

الرأي العام الدولي: حجر الزاوية في الاستراتيجية الإسرائيلية


لطالما اعتمدت إسرائيل على بناء الرأي العام الدولي لدعم عملياتها العسكرية. خلال حربها في غزة، استطاعت تصوير حماس كتهديد مباشر للمدنيين، مما وفر لها غطاءً دوليًا لتبرير تدخلها العسكري. اليوم، تستهدف إسرائيل حزب الله بنفس الطريقة، في محاولة لتصويره كتهديد للمدنيين في لبنان وإسرائيل على حد سواء. هذا الجهد الدعائي، المتزامن مع الهجمات العسكرية، هو جزء أساسي من الحملة الإسرائيلية، إذ إن كسب دعم المجتمع الدولي شرط أساسي لأي عملية برية واسعة النطاق.

زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة تأتي في إطار هذا المسعى الدبلوماسي، حيث سيعمل على تعزيز هذه الصورة أمام الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي. وبالتالي، فإن بناء الرأي العام العالمي ليس خطوة ثانوية في الاستراتيجية الإسرائيلية، بل هو جوهر الحملة العسكرية والدبلوماسية التي تسبق أي عملية عسكرية كبيرة.

الدخول البري إلى جنوب لبنان: بين الأهداف والتحديات

مع تصاعد التوترات على الحدود الجنوبية للبنان، يبقى احتمال دخول القوات الإسرائيلية بريًا واردًا. ورغم أن الخسائر البشرية الكبيرة تُعتبر نتيجة متوقعة لأي توغل بري في جنوب لبنان، إلا أن إسرائيل تبدو مستعدة لدفع هذا الثمن، كما فعلت في غزة. من منظور القيادة الإسرائيلية، هذه الحرب ليست مجرد صراع عسكري عابر، بل معركة وجودية تمس أمن الدولة بشكل مباشر.


الهدف الاستراتيجي الأكبر لإسرائيل من هذا التصعيد هو سحب ورقة جنوب لبنان من يد إيران وحزب الله، وتحويلها إلى ورقة ضغط جديدة تخدم مصالحها الإقليمية. كما حدث في غزة، تأمل إسرائيل في استخدام جنوب لبنان كوسيلة للتفاوض والتأثير على مستقبل المنطقة، وربما إدخالها في إطار التسويات السياسية الكبرى التي قد تأتي في المستقبل.

حزب الله أمام معضلات داخلية وخارجية


من المتوقع أن تترك هذه الحملة العسكرية تداعيات كبيرة على حزب الله، الذي سيخرج من هذه المواجهة منهكًا ومستنزفًا على المستويين العسكري والسياسي. سيجد الحزب نفسه تحت ضغط متزايد من المجتمع الدولي والمحلي لتسليم السيطرة على جنوب لبنان إلى جهات أخرى. إذا تحقق هذا السيناريو، سيشكل ذلك ضربة قاسية لنفوذ الحزب، الذي بنى سمعته على دوره كقوة مقاومة مركزية في لبنان.

على الصعيد الداخلي، سيواجه حزب الله تحديات غير مسبوقة. تزايد خسائره العسكرية سيقلل من مكانته كقوة عسكرية كبرى في لبنان، وسيتعرض لنقد متزايد من شرائح واسعة من المجتمع اللبناني التي تعارض سياساته وتحمله مسؤولية الدمار. في ظل تزايد الضغوط الدولية لفرض إدارة جديدة على جنوب لبنان، سيصبح الحزب معزولًا عن بيئته الحاضنة، التي بدأت بالفعل تُظهر بعض علامات التذمر نتيجة المعاناة المستمرة. كما أن الحزب سيجد صعوبة كبيرة في تأمين تمويل إعادة الإعمار في حال وضع المجتمع الدولي والعربي شروطًا قاسية لإعادة بناء الجنوب.


علاوة على التحديات الداخلية، سيواجه حزب الله معضلة خارجية أخرى تتمثل في تضاؤل الدعم الإيراني، الذي قد يقتصر على دعم لوجستي محدود. فمع انكفاء إيران إلى الحد الأدنى في مواجهة الإدارة الأمريكية الديمقراطية، سعيًا لتعزيز فرص الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة وطمعًا في إعادة إحياء الاتفاق النووي في حال وصول كامالا هاريس إلى الرئاسة، قد يجد حزب الله نفسه في موقف ضعيف دون الدعم الإيراني الكافي لخوض مواجهة شاملة مع إسرائيل. هذا التراجع التدريجي في الدعم الإيراني قد يضعف قدرة حزب الله على الحفاظ على استمراريته العسكرية والسياسية.

إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة


ما يحدث اليوم في جنوب لبنان هو جزء من تحولات أكبر في توازن القوى في الشرق الأوسط. إسرائيل، التي نجحت في فرض شروطها في غزة، تسعى الآن لتحقيق نفس الأهداف في جنوب لبنان، مما سيعيد رسم خارطة الصراع في المنطقة. المرحلة المقبلة قد تشهد تصاعدًا في المواجهات، لكنها ستحدد أيضًا مستقبل حزب الله كقوة سياسية وعسكرية في لبنان، وستؤسس لمرحلة جديدة من الصراع الإقليمي والدولي.

تتعدد السيناريوهات المستقبلية للصراع في جنوب لبنان. قد تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية بإضعاف حزب الله وتشكيل إدارة بديلة للجنوب، مما يعزز نفوذها ويضعف التأثير الإيراني. في المقابل، قد يصمد حزب الله، مما يعزز نفوذه الداخلي والإقليمي، رغم التحديات الاقتصادية والعزلة الدولية. من الممكن أيضًا أن يتجه الطرفان إلى تسوية سياسية تحت ضغط دولي، مما قد يؤدي إلى ترتيبات جديدة لحكم الجنوب. أخيرًا، يظل التصعيد الإقليمي الشامل احتمالًا قائمًا رغم كونه غير مرجح في ظل المواقف الإيرانية الحالية. فدخول إيران في مواجهة مباشرة قد يؤدي إلى اشتعال نزاع واسع النطاق في المنطقة، مما يفتح الباب أمام صراع إقليمي كبير بتداعيات دولية واسعة.

في النهاية، يبقى السؤال المحوري: هل سيتمكن حزب الله من الصمود أمام هذه الحملة المركزة، أم أن الاستراتيجية الإسرائيلية ستنجح في تحقيق أهدافها وتقليص قوة الحزب إلى درجة تمنعه من استعادة نفوذه السابق؟

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )


المصدر : Transparency News