جوزف بو هيا


على مدى العقود الماضية، تمكنت إيران من تعزيز نفوذها الإقليمي عبر أدوات غير مباشرة، كان أبرزها حزب الله في لبنان. منذ تأسيسه، عمل الحزب كذراع عسكري وسياسي لإيران، مستهدفًا تحقيق أهداف طهران الإقليمية، خاصة في مواجهة إسرائيل، دون أن تضطر إيران للتدخل المباشر في الشأن اللبناني. برز حسن نصرالله كقائد للحزب، مستفيدًا من كاريزمته وقدرته على إدارة التحالفات الداخلية، مما ساهم في ترسيخ مكانة حزب الله كقوة عسكرية وسياسية في لبنان، محققًا مكاسب استراتيجية لإيران دون الحاجة لظهورها المباشر.


لكن الحملة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، التي استهدفت قيادات الحزب ومستودعات أسلحته، وعلى رأسها اغتيال الأمين العام حسن نصرالله، كشفت عن هشاشة الحزب أمام التفوق العسكري الإسرائيلي. الحزب الذي اعتمد بشكل أساسي على الدعم الإيراني في التمويل والتسليح، بات يواجه تراجعًا كبيرًا، سياسيًا وعسكريًا، لم يعد بإمكانه إخفاؤه. هذا التراجع أجبر إيران على الخروج من الظل لتأخذ زمام المبادرة بشكل علني، مستخدمة أدواتها العسكرية والسياسية مباشرة للحفاظ على مكتسباتها في لبنان.


يواجه حزب الله ضغوطًا مزدوجة، داخلية وخارجية. داخليًا، يعاني لبنان من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، ما أدى إلى تراجع الدعم الشعبي للحزب. انقسام المجتمع اللبناني حول دور الحزب وتورطه في صراعات إقليمية لا تعكس مصالح لبنان أضعف مكانته. يرى العديد من اللبنانيين في الحزب عائقًا أمام بناء دولة مستقلة بسبب تأثير سلاحه وهيمنته على النظام السياسي وتغطيته للفاسدين. هذا الشعور تزايد بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وتفاقم مع دعم الحزب لجبهة غزة، مما عزز القناعة بأن أجندة الحزب مرتبطة بإيران بشكل أساسي، دون اعتبار لمصالح لبنان.


خارجيًا، شنت إسرائيل حملة عسكرية مركزة على مواقع الحزب، استهدفت خلالها قياداته العليا ومخازن أسلحته. كان اغتيال نصرالله ضربة قاصمة للحزب، حيث لعبت شخصيته الكاريزمية دورًا محوريًا في توحيد حلفاء الحزب وضبط مواقفه. غيابه ترك فراغًا قياديًا لم يتمكن الحزب من تعويضه، ما أدى إلى تراجع تأثيره على المستوى السياسي الداخلي، وتفكك هياكله العسكرية تحت وطأة الضربات الإسرائيلية. القيادات التي كانت تدير الملفات الأمنية والسياسية الحساسة فقدت السيطرة، مما أضعف قدرة الحزب على فرض أجندته.


مع تراجع حزب الله، وجدت إيران نفسها في موقف حرج. لم يعد بإمكانها الاعتماد على الحزب كذراع خفي لتحقيق أهدافها في لبنان. لذلك اضطرت إلى التدخل بشكل مباشر لضمان عدم خسارة لبنان كورقة استراتيجية في مواجهتها مع إسرائيل والقوى الدولية. هذا التدخل أخذ مسارين: الأول عسكري، من خلال الحرس الثوري الإيراني، الذي بات يشرف على عمليات الحزب مباشرة؛ والثاني سياسي، عبر دعم حلفائها في الساحة اللبنانية بشكل علني، بما في ذلك التصريحات الرسمية والتدخلات السياسية المباشرة.


هذا التدخل العلني يمثل تحولًا في النهج الإيراني التقليدي، الذي اعتمد على أدوات غير مباشرة لتجنب الظهور المباشر في الصراعات. لكن الضغوط المتزايدة، سواء من العمليات الإسرائيلية أو من العقوبات الدولية، دفعت إيران إلى تغيير استراتيجيتها. الهدف الآن هو الحفاظ على المكتسبات التي حققتها في لبنان، حتى لو تطلب الأمر تدخلاً مباشرًا.


إيران تدرك أن لبنان يمثل ورقة تفاوضية مهمة في صراعها مع إسرائيل والقوى الغربية. كانت الجبهة الجنوبية اللبنانية تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، واستخدمتها إيران كورقة ضغط في المفاوضات الإقليمية والدولية. لكن مع تراجع حزب الله، أصبحت هذه الورقة مهددة بفقدان فعاليتها. إسرائيل تعمل بشكل مكثف على نزع هذا التهديد من يد إيران عبر إضعاف حزب الله عسكريًا وتقويض دوره السياسي في لبنان.


في هذا السياق، يأتي التدخل الإيراني المباشر كجزء من محاولة لتعزيز موقفها التفاوضي في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والدولية. إيران تسعى لضمان استمرار وجود جبهة جنوبية مفتوحة مع إسرائيل، إدراكًا منها أن فقدان هذه الورقة سيعني تراجعًا كبيرًا في نفوذها الإقليمي. لهذا السبب، فهي مستعدة للتصعيد والمخاطرة بتدمير المزيد من البنية التحتية اللبنانية واستمرار الأزمة الداخلية.

ما نشهده اليوم في لبنان هو تحول جذري في الطريقة التي تدير بها إيران نفوذها في المنطقة. ضعف حزب الله، الناجم عن الضغوط الداخلية والخارجية، أجبر إيران على التخلي عن استراتيجيتها التقليدية والانتقال إلى التدخل المباشر. هذا التدخل يعكس عجز حزب الله عن الاستمرار كأداة فعالة لتحقيق الأهداف الإيرانية في لبنان، ويظهر أن إيران لم تعد قادرة على الاعتماد عليه كما في السابق.


إيران، التي تخوض حربًا بالوكالة ضد إسرائيل على الأراضي اللبنانية، تسعى بأي ثمن للحفاظ على نفوذها، مما يدفع لبنان ثمنًا باهظًا في هذه المعركة. هذا التدخل يجعل من الصعب تحقيق الاستقرار الداخلي، في وقت يظل فيه لبنان رهينة للصراعات الإقليمية التي تفرضها إيران عبر أدواتها المختلفة.


المصدر : Transparency News