جوزف بو هيا


تُعتبر الانتخابات الأمريكية محطة حاسمة في تحديد مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لاسيما فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. ورغم الاختلاف الظاهري بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري من حيث التكتيكات والوسائل، فإن الأهداف الاستراتيجية الأمريكية تبقى ثابتة، وتتمحور حول حماية المصالح الاقتصادية والجيوسياسية الأمريكية وضمان أمن إسرائيل. تلعب الدولة العميقة، المؤلفة من شبكة مؤسسات أمنية واستخباراتية وشركات كبرى وجماعات ضغط، دورًا جوهريًا في توجيه هذه السياسات بغض النظر عن الحزب الحاكم. ومع تراجع الهيمنة الأمريكية عالميًا، تزداد أهمية هذه الديناميكية، خاصة في ظل صمت القوى الكبرى مثل الصين وروسيا تجاه التطورات الإقليمية، مما يجبر واشنطن على إعادة النظر في استراتيجياتها.
لطالما اعتمدت الولايات المتحدة على استراتيجية واضحة وثابتة في الشرق الأوسط لحماية مصالحها وضمان أمن إسرائيل. إلا أن الأساليب تختلف بين الجمهوريين والديمقراطيين. يميل الجمهوريون إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة، كما ظهر في غزو العراق عام 2003. في المقابل، يعتمد الديمقراطيون على الدبلوماسية والقوة الناعمة، كما تجلى في الاتفاق النووي الإيراني خلال إدارة باراك أوباما. هذا النهج يعتمد على العقوبات الاقتصادية والتفاوضات متعددة الأطراف لتجنب المواجهات المباشرة.

من الناحية التكتيكية، تركز السياسات الديمقراطية على استخدام القوة غير المباشرة عبر دعم الحلفاء الإقليميين وحروب الوكالة. يعد دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا في مواجهة روسيا مثالًا بارزًا لهذا النهج الذي يسمح لواشنطن بالتعامل مع خصومها دون التورط المباشر. كذلك، تسعى الولايات المتحدة لتعزيز دور إسرائيل كقوة إقليمية، مما يمكّنها من تحقيق أهدافها دون الحاجة إلى التدخل العسكري الأمريكي.
تظل الدولة العميقة اللاعب الأبرز في رسم السياسة الأمريكية، حيث تركز على حماية المصالح الاقتصادية المرتبطة بالصناعات العسكرية والطاقة وضمان التحالفات الاستراتيجية. بغض النظر عن الحزب الحاكم، تتخذ هذه الشبكة القرارات الحاسمة المتعلقة بالتدخلات وفرض العقوبات وفقًا لأهداف بعيدة المدى، مع التركيز على استمرار الهيمنة الأمريكية.
خلال السنوات الأخيرة، تراجع النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية نتيجة صعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا وتزايد تأثير الفاعلين الإقليميين في الشرق الأوسط. ورغم هذا التراجع، تظل الولايات المتحدة القوة الأكثر تأثيرًا في المنطقة، بفضل تحالفاتها المتينة مع دول الخليج وإسرائيل، إلى جانب الاستراتيجيات المدروسة التي تضعها الدولة العميقة لضمان الحفاظ على هذه التحالفات.
من جهة أخرى، ورغم الطموحات المتزايدة للصين وروسيا في الشرق الأوسط، تتخذ بكين وموسكو مواقف حذرة تجاه القضايا الساخنة مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لتجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة. تواصل واشنطن دعم حلفائها الاستراتيجيين لضمان بقاء توازن القوى لصالحها، مما يضمن عدم تراجع النفوذ الأمريكي بشكل كامل في المنطقة.
تلعب إسرائيل دورًا محوريًا في الاستراتيجية الأمريكية، حيث تُعد جزءًا من الهيكل الأمني الذي تدعمه واشنطن. يتمثل هذا الدعم في مساعدات عسكرية ودبلوماسية، مما يمنح إسرائيل القدرة على المناورة في المنطقة. ورغم تراجع الهيمنة الأمريكية عالميًا، يبقى الالتزام الأمريكي بضمان أمن إسرائيل وتعزيز موقعها في المنطقة أمرًا لا جدال فيه.
وفي سياق تراجع الهيمنة الأمريكية، تعمل الدولة العميقة على تعزيز التحالفات الإقليمية، وخاصة مع إسرائيل. تستفيد إسرائيل من هذا الدعم لتعزيز اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، بينما تسعى الولايات المتحدة لمواصلة مواجهة النفوذ الإيراني وضمان استقرار المنطقة من خلال هذه التحالفات الاستراتيجية. تهدف هذه التحركات، المدعومة باستراتيجيات طويلة الأمد، إلى الحفاظ على النفوذ الأمريكي دون الحاجة إلى التورط المباشر.
ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية، تجد المرشحة الديمقراطية "كامالا هاريس" توافقًا مع هذه الرؤية الاستراتيجية، خاصة فيما يتعلق بالدور الأمريكي غير المباشر. يتماشى هذا النهج الذي يخفف من ضغوط المواجهة العسكرية المباشرة ويعزز المصالح الإسرائيلية مع المزاج الداخلي الأمريكي الذي يميل لرفض التورط في صراعات جديدة. وبالتالي، يُتوقع أن تساهم هذه الاستراتيجية في نجاح الرؤية الديمقراطية في المرحلة المقبلة.

المرونة التي تميز السياسات الديمقراطية، والتي تعتمد على القوة غير المباشرة والدبلوماسية، تمنح الولايات المتحدة مساحة أكبر لإدارة نفوذها الإقليمي دون الحاجة للتورط في صراعات مكلفة. يخدم هذا النهج المصالح الأمريكية بشكل فعال، خاصة في ظل تراجع الهيمنة التقليدية. كما يعزز دور أمريكا كوسيط دبلوماسي في الأزمات الإقليمية، ويحفظ لها موقعها كقوة مؤثرة دون الحاجة للتورط المباشر في الصراعات.
في الختام، على الأنظمة الإقليمية أن تستوعب التحولات في السياسة الأمريكية وتتبنى سياسات مرنة تستفيد من هذه التغيرات. تراجع الهيمنة الأمريكية لا يعني نهاية التأثير الأمريكي، بل يشير إلى تطور في استراتيجياتها للتكيف مع صعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا. تبقى الدولة العميقة العامل الحاسم في تحديد توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، ما يضمن استمرار المصالح الأمريكية وحلفائها الرئيسيين في المنطقة.

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News")


المصدر : Transparency News