جوزف بو هيا


في تاريخ لبنان الحديث، مرت معظم الطوائف بأزمات وصراعات داخلية دفعتها نحو نضوج سياسي أفضى إلى رفض الحروب الأهلية والسعي لتحقيق شراكة وطنية تقوم على أسس العيش الكريم والمساواة، مستندةً إلى الدولة ومؤسساتها كضمانة للحقوق والحريات. ومع ذلك، بقيت الطائفة الشيعية تحت تأثير حزب الله في حالة من العزلة السياسية والاجتماعية بفعل تعبئة أيديولوجية مستوردة من مفاهيم الثورة الإسلامية في إيران، التي بدأت تؤثر على شيعة لبنان منذ ثمانينيات القرن الماضي. أسهمت هذه السياسة في خلق بيئة شيعية ذات توجهات مغايرة لعادات لبنان وتاريخه، بل وغريبة عن الإرث التاريخي للشيعة اللبنانيين. واستندت سياسة الحزب إلى تكوين سردية تركز على التخويف من الآخر اللبناني، مما أعاق انخراط شريحة كبيرة من الطائفة الشيعية في مشروع الدولة اللبنانية وكرّس ارتباطها بمؤسسات الحزب الموازية.

مسار تطور الوعي الجماعي للطوائف اللبنانية نحو الشراكة الوطنية

يمكننا العودة إلى محطات تاريخية هامة مرت بها الطوائف اللبنانية الرئيسة، وكيف ساهمت التجارب المريرة في تكوين وعي جماعي سياسي يعزز الالتزام بالمصلحة الوطنية:

الموارنة: عانت الطائفة المارونية من صراعات قاسية خلال الحرب الأهلية، لكنها أدركت بعد هذه التجربة أن الاعتماد على السلاح والاستقواء الخارجي لم يحقق لها استقرارًا مستدامًا. كانت اتفاقية الطائف نقطة تحول أساسية، حيث قبلت الطائفة بتقديم تنازلات سياسية أعادت توزيع السلطة، مما شكل خطوة نحو بناء شراكة وطنية تقوم على الدولة كإطار جامع يحمي الحقوق والحريات.

السنة: بعد انتهاء الحرب الأهلية وتحت مظلة اتفاق الطائف، تخلت الطائفة السنية عن المشاريع الإقليمية التي كانت تساندها لصالح تأكيد الهوية اللبنانية. رفعوا شعار "لبنان أولاً" وركزوا على إعادة البناء الداخلي، معتبرين الدولة الإطار الأوحد لتحقيق الاستقرار وحماية حقوق الجميع.

الدروز: بعد صراعات دامية، بلور الدروز وعيًا سياسيًا يعتمد على التسويات الداخلية وتجنب النزاعات. فإيمانهم بأهمية السلم الأهلي دفعهم نحو دعم الدولة كضامن لحقوقهم واستقرارهم، حيث أصبح تقوية الدولة أولوية لخدمة الطائفة والوطن.

استخلصت هذه الطوائف من تجاربها دروسًا جوهرية حول أهمية تجاوز الاقتتال الداخلي، والابتعاد عن استراتيجيات الاستقواء الطائفي، والاستعاضة عنها ببناء شراكة وطنية تقوم على سيادة الدولة وكرامة جميع المواطنين.

الطائفة الشيعية ونفوذ حزب الله: سردية العزلة والدويلة داخل الدولة

على عكس المسار الذي اتبعته الطوائف الأخرى، بقيت الطائفة الشيعية رهينة خطاب سياسي وأيديولوجي فرضه حزب الله، الذي استخدم أدوات متعددة لترسيخ نفوذه، بما في ذلك السلاح والخطاب التخويفي، وفرض بنية مؤسسات موازية تعمل خارج نطاق الدولة اللبنانية. وأسهمت هذه الأدوات في عزل شريحة واسعة من الطائفة الشيعية عن المشروع الوطني اللبناني، مما أنتج حالة من "الدويلة داخل الدولة"، حيث أصبحت مؤسسات الحزب البديل الأساسي لدى الشيعة عن مؤسسات الدولة.

1-    خطاب التخويف من الآخر: يركز حزب الله على إثارة الشعور بالخطر الدائم من الطوائف الأخرى، مما يعزز من عزلة الطائفة الشيعية عن المجتمع اللبناني. أسهم هذا الخطاب العاطفي في خلق تردد لدى الطائفة الشيعية تجاه الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية، وصوّر الدولة ككيان غريب لا يحمي حقوقهم.

2-    التعبئة المسلحة وتهميش مؤسسات الدولة: اعتمد الحزب على قوة السلاح كأداة لتثبيت سيطرته، مما خلق ثقافة الاعتماد على القوة المسلحة بدلاً من مؤسسات الدولة لتحقيق العدالة والأمن. أدى ذلك إلى تهميش الدولة وتآكل شرعيتها، خاصةً في المناطق الشيعية التي أصبحت ترى في الحزب المرجعية العليا بدلًا من مؤسسات الدولة الرسمية.

3-    إقامة مؤسسات موازية: أنشأ حزب الله شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية التي تعمل بموازاة الدولة، وبهذا، تحولت بيئة الحزب إلى مجتمع منعزل يعتمد على "دويلته" الخاصة، مما أدى إلى تآكل الولاء للدولة لدى شريحة كبيرة من الطائفة الشيعية.

4-    استخدام سردية المقاومة ضد إسرائيل: استغل الحزب قضية المقاومة كغطاء لتبرير احتكاره للقرار الشيعي، عبر استمرار تعبئة الطائفة ضد عدو خارجي، مما برر سيطرته على الداخل. ورغم أن هذه السردية باتت محدودة التأثير على تحسين واقع الطائفة أو تعزيز مكانتها الوطنية، فإنها لا تزال تستخدم لتعميق عزلة الشيعة عن المشروع الوطني.

النتائج الحتمية لغياب الوعي الجماعي الوطني

إن سياسات حزب الله لا تهدد الطائفة الشيعية فحسب، بل تهدد لبنان ككل، إذ إن استمرار عزلة الطائفة يضع البلاد أمام مخاطر عدة:

1-    خطر الانجرار خلف حسابات طائفية خاطئة: يعمق خطاب التخويف والتعبئة المسلحة عزلة الطائفة الشيعية، مما يضعها في حالة مواجهة مستمرة مع المجتمع اللبناني، ويُفقدها القدرة على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية، ويهدد موقعها الوطني.

2-    إضعاف مؤسسات الدولة: كلما اعتمدت الطائفة على مؤسسات حزب الله بدلاً من مؤسسات الدولة، تآكلت شرعية الدولة وضعفت قدرتها على فرض سيادتها، مما يهدد بانهيار الوحدة الوطنية ويزيد من هشاشة السلطة المركزية، ويضع لبنان أمام شبح الفوضى والانقسامات الداخلية.

3-    تهديد السلم الأهلي: إن هيمنة حزب الله على الطائفة الشيعية عبر مؤسساته الخاصة وسلاحه تجعل بقية الطوائف تشعر بالتهديد، مما يعزز مناخ الخوف المتبادل ويزيد من الانقسام المجتمعي، ويُعيد شبح الاقتتال الداخلي في لبنان ويقضي على أي أمل في بناء دولة قادرة على حماية جميع مواطنيها.

مقترحات لتحقيق الشراكة الفعلية

يُعد التحدي الأكبر اليوم هو تجاوز الطائفة الشيعية لحالة العزلة والانخراط ضمن إطار مشروع الدولة الوطنية، ويمكن تحقيق ذلك عبر خطوات ملموسة:

1-    التخلي التدريجي عن المؤسسات الموازية: ينبغي لحزب الله إعادة النظر في مؤسساته التي تعمل بموازاة الدولة، والعمل على دمج هذه المؤسسات تدريجيًا ضمن الهيكل الحكومي، مما يعزز من قدرة الطائفة الشيعية على الاعتماد على الدولة كمؤسسة حامية.

2-    إعادة النظر في سردية السلاح: آن الأوان لحزب الله لإعادة تعريف دوره، من قوة عسكرية إلى قوة سياسية، وفتح حوار مع بقية القوى اللبنانية لتحديد آليات تضمن أمن لبنان دون الحاجة لسلاح خارج إطار الدولة.

3-    الالتزام بحوار وطني جامع: تنظيم حوار وطني شامل تحت رعاية دولية يمكن أن يوفر ضمانات لكل الطوائف، ويعزز من إيمان الطائفة الشيعية بأهمية الدولة كإطار ضامن لحقوقها وحامي لاستقرارها.

4-    إعادة بناء الثقة مع الدولة: يجب تعزيز الثقة بين الطائفة الشيعية ومؤسسات الدولة من خلال سياسات شاملة تكفل حقوقهم وتحمي مصالحهم دون اللجوء إلى مؤسسات موازية، مما يساهم في إعادة دمج الطائفة ضمن النسيج اللبناني.

لقد أدركت الطوائف اللبنانية من تجاربها القاسية أن الاقتتال الداخلي لا يحمي مصالحها، بل يدمر الوطن. ومن هنا، فإن الطائفة الشيعية أمام مسؤولية تاريخية للخروج من دائرة العزلة والانضمام إلى مشروع الدولة اللبنانية كضامن وحيد للأمن والاستقرار للجميع. إن استمرار نهج الانعزال والتبعية الأيديولوجية لن يقود إلا إلى تدمير ما تبقى من أسس الدولة اللبنانية، ويدفع البلاد نحو الدمار. إن استيعاب الطائفة لهذه المسؤولية والانخراط في بناء لبنان تحت مظلة الدولة يحقق مصالح الجميع، بينما تجاهل هذه الدعوة سيقود لبنان إلى خسائر أكبر يتحملها الجميع.
لهذا، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه حزب الله اليوم هو اتخاذ قرار استراتيجي بتغيير مساره، من خلال نبذ خيار السلاح والتخلص من الأجندات الخارجية، والعمل على تأسيس شراكة حقيقية تحت سقف الدولة التي تحمي الجميع دون استثناء.

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News")


المصدر : Transparency News