لبنان بين الأجندات الإقليمية والقرار السيادي
02-11-2024 07:31 AM GMT+02:00
يقف لبنان اليوم أمام مفترق طرق تاريخي، حيث تنخرط الحكومة اللبنانية بحسب المعلومات في مفاوضات مع إيران تهدف إلى وقف عمليات حزب الله ضد إسرائيل. تبدو هذه الخطوة - في ظاهرها - محاولة لعزل لبنان عن تداعيات صراعات غزة والشرق الأوسط، لكنها تفتح الباب لأسئلة جوهرية حول معنى السيادة الوطنية وحدود القرار اللبناني، وأيضًا حول مدى استقلالية حزب الله في اتخاذ قراراته بعيدًا عن الأجندة الإيرانية.
إيران وحزب الله: أداة النفوذ أم الشريك الوطني؟
لطالما اعتمدت إيران على حزب الله كقوة إقليمية لا تخدم لبنان فحسب، بل تعمل كذراع استراتيجي لتحقيق مصالحها في الشرق الأوسط، خاصةً في مواجهة إسرائيل. لا تكتفي إيران هنا بالدعم، بل تنظر إلى حزب الله كعنصر رئيسي في مشروعها الجيوسياسي، إذ يمثل الحزب بُعدًا يتجاوز حدود الوطن ويصل إلى سياقات إقليمية ودولية تتعارض - في أحيان كثيرة - مع مصلحة لبنان.
السؤال هنا يكمن في مدى قدرة الحكومة اللبنانية على فرض قرار مستقل بوقف عمليات الحزب. فهل يمكن للبنان فعلاً أن يحدّ من نشاطات حزب الله، أم أن هذه المفاوضات تعكس - ضمنيًا - اعترافًا بتبعية القرار اللبناني لإيران في قضايا الأمن القومي؟ يُعطي هذا الواقع صورة مفادها أن قدرة لبنان على اتخاذ قراراته الاستراتيجية تبدو مشروطة بالنفوذ الإيراني، وهو ما قد يعزز التبعية على حساب السيادة الوطنية.
لبنانية حزب الله: هوية سياسية أم ارتباط وظيفي؟
يتمتع حزب الله بقوة وتأثير يتجاوز حدود لبنان، ومع ذلك، يثير حضوره السياسي والعسكري نقاشات حول هويته الوطنية، إذ يرى البعض أن الحزب، رغم انتمائه إلى النسيج اللبناني، بات أداة لأجندة تتعدى المصالح الوطنية. الدعم الإيراني للحزب لم يكن مجرد تمويل أو تسليح، بل هو تكريس لدور الحزب كقوة وظيفية في خدمة مشروع إيران الإقليمي. وبذلك، يبرز التساؤل: إلى أي مدى يمكن اعتبار حزب الله لبنانيًا فعلاً إذا كانت قراراته تأتي ضمن أولويات إيرانية لا تتماشى مع المصلحة اللبنانية؟
التوازن بين هويتين: لبنانية و"إيرانية الوظيفة"، يجعل من حزب الله طرفًا غير طبيعي في السياسة اللبنانية. إذ يستخدم الحزب شعار "المقاومة" ليضفي على وجوده شرعية داخلية، إلا أن تلك المقاومة تتماهى غالبًا مع أولويات طهران الإقليمية. وهذا يضعف مصداقيته أمام جمهور واسع يرى في لبنان وطنًا بحاجة للاستقلال عن النزاعات الخارجية، بل وأكثر من ذلك، يجعل من لبنان ساحة معركة مفتوحة، مما يعرض استقراره للخطر ويقوض سيادته ويزيد من عزلة البلاد الدولية.
السياق الإقليمي والدولي: التسوية أم تكريس النفوذ؟
في سعي إيران لترسيخ نفوذها الإقليمي، نجد أن دور حزب الله يتجاوز كونه قوة دفاع، ليصبح أداة سياسية تستخدمها إيران للضغط على إسرائيل والغرب، مما يعرض لبنان باستمرار ليكون في قلب صراع إقليمي لا يخدم مصالحه. وبالتالي، تتعاظم المخاطر التي تواجه الحكومة اللبنانية، إذ يُحتمل أن تجد نفسها رهينة لهذا النفوذ المتزايد، بحيث تصبح البلاد عرضةً لصراعات الشرق الأوسط بدلاً من أن تكون بعيدة عنها.
التحدي هنا يكمن في قدرة الحكومة على رؤية الصورة من منظور استراتيجي أعمق: هل يمكن أن تقدم بدائل سياسية حقيقية تُبعد لبنان عن دور الساحة البديلة للحروب؟ أم ستبقى رهينة حسابات إقليمية تجعل من لبنان مجرد أداة لتحقيق أهداف إيرانية؟ إعادة تعريف الدور الوطني تتطلب من الحكومة اللبنانية خطوات ملموسة تهدف إلى تحييد لبنان عن النزاعات القائمة، والعمل على تأسيس سياسة سيادية تحفظ استقلالية القرار الوطني.
إعادة تعريف السيادة: مناخ داخلي داعم وسياسة خارجية حكيمة
المحاولة الحقيقية لاستعادة استقلالية القرار اللبناني تتطلب إعادة صياغة مفهوم السيادة الوطنية. لا يمكن للبنان أن يستعيد سيادته ما دامت القرارات المصيرية تتخذ خارج حدوده. كما أن تحييد لبنان عن الصراعات يتطلب سياسة خارجية حكيمة ومناخًا داخليًا يرفض الهيمنة الخارجية، ويعزز من الولاء الوطني على حساب الولاءات العابرة للحدود.
تحتاج الحكومة اللبنانية إلى تحويل هذا الوضع من مجرد مفاوضات إلى عملية إعادة بناء للسياسة الداخلية، من خلال فتح نقاش وطني حول دور حزب الله وأهدافه المستقبلية ضمن إطار الدولة اللبنانية. كذلك، يمكن للبنان أن يسعى لإقامة تحالفات دولية تدعم سيادته وتساعده على كبح النفوذ الخارجي، مع احترام تنوعه الداخلي ودون الإضرار بوحدته.
لبنان عند مفترق طرق مصيري
يواجه لبنان خيارين أساسيين: إما أن يتخذ خطوات جريئة نحو استعادة قراره السيادي وإعادة توجيه حزب الله ليكون كيانًا يخدم مصلحة لبنان أولاً، أو أن يظل رهينة لأجندات خارجية تعزز تبعيته. المفاوضات الجارية هي فرصة لاختبار قدرة لبنان على التحرر من النفوذ الإقليمي. إذا ما اختارت الحكومة استعادة استقلالية القرار اللبناني، فقد يصبح لبنان نموذجًا للاستقلالية والسيادة في إدارة أزماته، بعيدًا عن هيمنة الأجندات الخارجية.
لبنان، إما أن يكون دولة ذات هوية وسيادة مستقلة، أو يغرق في دوامة التبعية للأجندات الإقليمية التي تزيد من عزله وإضعافه.
المصدر : Transparency News