يوسف مرتضى - كاتب سياسي


ينظر بعض المحللين إلى أن فوز ترامب بالرئاسة الأميركية سوف يؤدي إلى سياسة أميركية شرق أوسطية مغايرة لسياسة الحزب الديمقراطي. من وجهة نظري أن لدى الدولة العميقة في أميركا استراتيجية واحدة حيال الشرق الأوسط يلتزم بها الحزبان الجمهوري والديمقراطي على السواء. والاختلاف بينهما لا يمس جوهر تلك الاسترتيجية بقدر ما يتمايز بأسلوب وآليات مقاربة أهدافها .

تتركّز استراتيجية أميركا الشرق أوسطية على ملفين منفصلين ومترابطين في آن.

الملف الأول هو المتعلق بإيران ودورها في المنطقة، والملف الثاني هو المتعلق بأمن إسرائيل وارتباط ذلك بقضية الشعب الفلسطيني.

      الملف النووي الإيراني، أذرع إيران وبرنامجها الصاروخي

في الملف الإيراني، يذهب ترامب إلى السعي لعقد صفقة مع الإدارة الإيرانية حول ثلاث قضايا مترابطة، الإتفاق النووي الذي يضمن عدم  تمكين إيران من امتلاك سلاح نووي، قضية الأذرع الإيرانية في لبنان والعراق واليمن وفلسطين، وقضية برنامج الصواريخ الباليستية.

هذا الملف المثلث الأضلاع، كانت الإدارة الأميركية الديمقراطية في عهدي أوباما وبايدن  قد قطعتا شوطاً في التفاوض عليه مع إدارتي حسن روحاني وإبراهيم رئيسي، وبرزت إشارات قوية على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة عن إمكانية عقد صفقة مع إدارة بزشكيان لو فاز الحزب الديمقراطي فيها، وهو الأمر الذي يفسّر مهادنة الإدارة الإيرانية لإدارة بايدن في المواجهة المسرحية مع إسرائيل والتي مكنت إسرائيل من توجيه ضربات موجعة لحزب الله بتصفية قياداته الأساسية وعلى رأسها السيد نصرالله.

لقد أثير الكثير من الملاحظات على مرونة إدارة بايدن بالعلاقة مع الإيراني عندما غضت النظر عن رفع إيران لإنتاجها النفطي من مئتي الف برميل  يومياً بنتيجة العقوبات التي فرضها عليها ترامب إثر قراره بانسحاب أميركا من الاتفاق النووي عام ٢٠١٨، إلى حوالي ثلاثة ملايين برميل في عهد بايدن مقابل تسهيل إيران عبر حزب الله توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية ببن لبنان وإسرائيل ولمصلحة هذه الأخيرة بالطبع، وتوفير مورد جديد للطاقة إلى أوروبا عبر كاريش، والحد من زيادة أسعار النفط في السوق العالمي بما يخدم السوق الأوربية المثقلة بتضخّم سعر الطاقة الناجم عن مقاطعة الغرب لموارد الطاقة الروسية بسبب حربها في أوكرانيا.

هذه السياسة التي انتهجتها إدارة بايدن سمحت بضخ مليارات الدولارات في السوق الإيرانية ، ما ساهم في استمرار تمكين إيران من تمويل وتسليح أذرعها في المنطقة.

المعوّل على إدارة ترامب هو العودة إلى استخدام الضغوط الاقتصادية القصوى على إيران لحرمانها من تلك المداخيل كما في المرحلة الترامبية السابقة، تحديداً في مجال إنتاج النفط والغاز في ظل ظروف إيرانية داخلية تتسم بالهشاشة القصوى والصراع ببن مشروعي الدولة والثورة، الذي برز في الخروقات الأمنية الخطيرة في النظام الإيراني وذهب ضحيتها الرئيس إبراهيم رئيسي ورئيس حركة حماس إسماعيل هنية وقبل ذلك العالم النووي  محسن فخري زادة، هذا فضلاً عن الانتفاضات الدموية المتتالية التي شهدتها إيران وكان آخرها انتفاضة همسة أمينة.

تلك الظروف المستجدة في إيران والقلق من زيادة الضغوط الأميركية، تشي بدون شك بإمكانية استعداد إيران للذهاب  إلى عقد صفقة حول الملف المثلث الأضلاع مع إدارة ترامب، وهذا ما يؤشر إليه تسارع الخطى الإيرانية وانخفاض سقوفها في سلوك دروب  الانفتاح على بلدان الجوار وعلى المجتمع الدولي، خشية وقوعها تحت ضغوط اقتصادية قد تهدد وجود النظام نفسه.

لكن ما تجدر الإشارة إليه، ما هو الثمن الذي يجعل إيران تقدم على صفقة ترضي الأميركي ويحفظ بعض مصالحها في المقابل ؟

بدون شك قدرات إيران على فرض مشروعها التوسعي قد أصيب خلال السنوات الماضية بانتكاسات كبيرة، وعلى الرغم من ذلك ما زالت تملك الكثير من القدرات التي تمد بها أذرعها في لبنان واليمن والعراق، ما يبقي جبهات القتال مفتوحة بين لبنان وإسرائيل وكذلك جبهة الممرات البحرية في البحر الأحمر والخليج، وفي تشغيل الأذرع بتهديد القواعد الأميركية في المنطقة. من هنا أرى أن المقابل الإيراني سوف يخضع لميزان القوى الذي ستحدد سقوفه تطورات المواجهة في الميدان في الأشهر القليلة المقبلة ريثما تتشكل الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة ترامب.

              القضية الفلسطينة وأمن إسرائيل

أما بالنسبة للملف الثاني المتعلق بأمن إسرائيل ومسألة الحقوق الفلسطينية والعربية، والذي ذهب ترامب في نسخته الأولى في مقاربته له، إلى التماهي مع اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يرفض الاعتراف بأية حقوق للفلسطينيين، فعمد إلى نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، واعترف بسيادة إسرائيل على الجولان، من ضمن خطة أشمل قادها صهره جارد كوشنر،

المعروفة بصفقة القرن أو مشروع الحل الإبراهيمي.

وهنا يُطرح السؤال حول ما إذا كان ترامب في نسخته الثانية سيتابع ما بدأه في إدارته السابقة في مقاربة هذا الملف أم أنه سينتهج خياراً مختلفاً إنطلاقاً من الظروف والتحولات التي شهدتها المنطقة بعد السابع من أكتوبر؟

بدون أدنى شك أن ترامب نفسه تغّير واستفاد من دروس الماضي، وأعلن صراحة وتعهد في حملته الانتخابية بوقف الحروب وإحلال السلام، والذهاب نحو التنمية الاقتصادية في المنطقة. وهو حتماً سيواجه في مقاربته لموضوع ضمان أمن إسرائيل واقعاً أكثر تعقيداً مما كان عليه الأمر قبل السابع من اكتوبر ٢٠٢٣. فإسرائيل مستنزفة ولا ثقة لشعبها بقدرات جيشها على حمايته. الحكومة القائمة في إسرائيل تمثّل قمة التطرف الصهيوني، وترفض الاعتراف بأية حقوق فلسطينية، لا بل هي تطرح اليوم مسألة فرض السيادة الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية.

ولكن السابع من اكتوبر أعاد تعويم القضية الفلسطينية عربياً، إقليمياً ودولياً، والمملكة العربية السعودية تقود اليوم  مبادرةٍ لتحالف دولي من أجل حل الدولتين،  وهي مهدت لذلك بقمة عربية- إسلامية شاركت فيها ثمانون دولة،  وأجمع فيها المشاركون على تبني خيار الدولتين وأقروا في الوقت نفسه آليات مهمة لمتابعة تنفيذه، من ضمنها طرح تجميد عضوية إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وإذا عدنا للتدقيق في أولويات الإدارة الترامبية التي قرأنا فصولها في خطابات ترامب الانتخابية، نرى أنه يقع في سلم أولوياته وقف الحروب في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا ليركًز اهتمامه على المنافس الاقتصادي الأول لأميركا، عنيت بذلك الصين، ليبقي أميركا في الطليعة، تتصدى لقيادة العالم باقتصاد منتعش. وهذا ما سيجعل خياره في الشرق الأوسط أمام تناقضين أساسيين قد يعرقلا ما تعهد به وما يصبو إليه .

التناقض الأول، يتمثّل بإدارة يمنية دموية متطرفة في إسرائيل، ويتطابق مشروعها مع ما تتبناه قاعدة ترامب الانتخابية أي الإنجيليون الجدد الذين يتبعون مقولات العهد القديم ، والتناقض الثاني يتمثّل بموقف عربي مستجد ومتماسك  بعد السابع من أكتوبر، يتبنى حل الدولتين تقوده السعودية،  وتشترط تبني هذا الحل ووضعه موضع التنفيذ قبل الإقدام على أي خطوة باتجاه التطبيع مع إسرائيل.

من هنا أرى أن الحلول الترقيعية للقضية الفليسطينية ستبقي أبواب الصراع مفتوحة على مصراعيها، وقد تزيد من زخم وتنشيط التطرف العربي والإسلامي في مواجهة التطرف الصهيوني. فهل يغامر ترامب ويبقى على خيار نسخته الأولى في التعاطي مع الملف الفلسطيني، أي خيار السلام المبني على سياسة ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية والتهجير التي تنتهجها إسرائيل، ما يكره العرب والمسلمين ويدفعهم إلى المزيد من التوجه شرقاً ونحو بريكس، أم أنه سينحاز إلى خيار السلام المبني على إقرار الحقوق والتزام قرارات الشرعية الدولية؟

لذا إذا أراد ترامب تغليب مصالح أميركا الاقتصادية وفق تطلعاته المستقبلية، فهو ذاهب حتماً إلى التصادم مع نتنياهو وحكومته المتطرفة إذا قرر تجاوز الاعتبارات الأيديولوجية للصهاينة والإنجيليون الجدد.

 وقبل أن نحسم أي خيار سينتهجه ترامب، علينا انتظار ما سوف تؤول إليه التطورات في الأشهر القليلة المقبلة لتنقشع الرؤية بشكل أفضل. وأعتقد في هذه الحالة، وللتغلب على تلك التناقضات،  سيكون  ترامب بحاجة إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا والتعاون مع روسيا في إرساء أسس لسلام عادل ودائم في الشرق الأوسط يشمل مختلف الكيانات المتولدة من سايكس- بيكو.