جوزيف بو هيا


يمر لبنان بمرحلة حاسمة تتراكم فيها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بطريقة غير مسبوقة، تفرض واقعاً لا مفر من مواجهته. لقد أثبتت التجارب أن أسلوب التنازلات والتوافقات الطائفية لا يولد إلا المزيد من الانقسام والفساد ويعمق الأزمات، مما يعطل فرص التقدم. اليوم، لبنان بحاجة إلى نهج قيادي جديد وشجاع يعيد للوطن كرامته ووحدته، ويضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، ويتسلح بالحزم والشفافية لبناء دولة قائمة على أسس قوية، يتطلع إليها جميع اللبنانيين.

التجربة السنغافورية مثال ملهم. بعد استقلالها عن ماليزيا، كانت سنغافورة تعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية حادة تهدد استقرارها، ولكن بفضل رؤية لي كوان يو وقيادته، اتخذت قرارات حاسمة، لم تكن شعبية في البداية، ولكنها أسست دولة رائدة اقتصادياً ومستقرة. لي كوان يو لم يلجأ إلى الحلول المؤقتة أو التنازلات التي قد ترضي البعض على حساب المستقبل. بدلاً من ذلك، ركز على بناء اقتصاد قائم على الكفاءة والنزاهة، واتخذ مواقف صارمة ضد الفساد والمحسوبيات، وفرض سيادة القانون على الجميع دون استثناء. لقد أظهر أن الحزم لا يعني القمع، بل يعني المضي بخطى واضحة نحو مستقبل مستقر ومزدهر.

لبنان يحتاج إلى قيادة تتصف بنفس الحزم والمصداقية، قيادة تجعل من سيادة القانون حجر الزاوية، وتبني مؤسسات وطنية قائمة على الكفاءة والنزاهة بعيداً عن الانقسامات الطائفية. هذا ليس مجرد تحدٍ سياسي أو اقتصادي، بل هو تحدٍ أخلاقي. كيف يمكن للنخبة السياسية أن تطالب الشعب بالثقة وهم يتجاهلون مبدأ تكافؤ الفرص، ويعتمدون المحسوبيات والتوريث والطائفية كمعايير للحكم؟ الحل يبدأ بقيادة قوية تتخذ مواقف مبدئية ثابتة، وتواجه الأزمات بشجاعة وليس بالتسويات الضعيفة.

من التجارب الأساسية في سنغافورة كانت الاستفادة من التنوع العرقي والثقافي كمصدر قوة، وليس عامل تفريق. سنغافورة نجحت في توحيد مجتمعها المتنوع بفضل سياسات تدعم التعايش وتكرس القيم المشتركة. لبنان، بدوره، يمكن أن يتبنى هذا النموذج من خلال وضع القواسم الوطنية المشتركة في المقدمة، واتباع سياسات تركز على الاندماج بدلاً من تعزيز الزعامات الطائفية التي تؤدي إلى التشتت.

الحزم في القيادة لا يعني تهميش الحريات، بل الالتزام بمسار إصلاحي واضح يهدف إلى بناء دولة قوية تحفظ حقوق مواطنيها وواجباتهم على حد سواء. لي كوان يو لم يقمع الحريات، بل أتاح بيئة تتيح المشاركة في التنمية، ولكن ضمن نظام صارم يحمي حقوق الجميع ويطبق العدالة على الجميع دون استثناء. المطلوب في لبنان هو قيادة تُعيد هيبة الدولة من خلال سيادة القانون، وتكافح الفساد بقوة وشمولية، وتطبق القوانين على جميع المواطنين والمسؤولين على حد سواء.

ولكي تبدأ مسيرة مكافحة الفساد في لبنان، يجب أن تكون النفضة الأساسية في القضاء، إذ أن قلة المحاسبة هي المحرك الرئيسي للفساد. القضاء، الذي يفترض أن يكون الضامن للعدالة والمساءلة، تضرر بفعل تدخل السياسيين الذين نصبوا رجالهم فيه. وقد جاء هؤلاء السياسيون بفعل نظام استمر منذ الاحتلال السوري للبنان، الذي رسخ نهجاً من التبعية والمحاباة. واستمر هذا النهج تحت حماية حزب السلاح غير الشرعي حتى اليوم، مما كرّس ثقافة المحسوبيات والفساد التي اعتمد عليها الشعب وترسخت عبر الزمن، لتشكل رافداً لتمويل السياسيين على مدى سنوات طويلة.

لتحقيق هذا التحول، يمكن للبنان أن يبدأ بحملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد، بمساندة أصدقاء لبنان الدوليين. يجب أن تشمل هذه الحملة ملاحقة الفاسدين دون استثناء لمناصبهم أو انتماءاتهم، مع تعزيز الشفافية في كافة القطاعات الحكومية، بما يسهم في تجفيف مصادر التمويل التي يستفيد منها القيادات السياسية المتنفذة، والذين يمثلون جوهر المشكلة. هذه الحملة ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل هي حجر الأساس لاستعادة ثقة المواطنين في دولتهم ومؤسساتها.

كما يمكن لهذه القيادة أن تشرع بمشاريع وطنية جامعة، مثل مشاريع البنية التحتية والتعليم والصحة التي تشمل جميع المناطق اللبنانية، وتقدم خدمات متساوية لكافة المواطنين. هذه المشاريع، أكثر من مجرد توفير خدمات، تعد بمثابة أدوات لخلق إحساس قوي بالانتماء إلى دولة عادلة تحترم مواطنيها وتسعى لخدمتهم.

إن لبنان اليوم في حاجة إلى قيادة تعرف كيف تقول "لا" عند الحاجة، وتتخذ قرارات صعبة لتحقيق المصلحة العامة، بعيداً عن المساومات الطائفية والسياسية. إن القيادة الحازمة هنا ليست ترفاً، بل ضرورة وطنية. مثلما أدرك لي كوان يو أن التضحية على المدى القصير كانت ضرورية لبناء دولة مزدهرة ومستقرة، على النخبة اللبنانية أن تدرك أن الحل لا يكمن في إرضاء الجميع على حساب مستقبل البلاد، بل في اختيار مسار جريء وشجاع نحو التغيير الجذري.

لبنان أمامه فرصة، وربما الأخيرة، لإعادة بناء دولة نموذجية في المنطقة، دولة قائمة على العدالة والمساواة، تحترم التنوع وتوحد المواطنين تحت راية واحدة. على النخبة السياسية أن تدرك أن لبنان يستحق قيادة تُلهم شعبها وتدفعه نحو الأمام، قيادة تبتعد عن أسلوب التسويات الضعيفة وتتجه نحو بناء مستقبل أفضل بكرامة وشرف. الشعب اللبناني يستحق حياة تليق بتضحياته وصموده، ويستحق قيادة تتمثل فيها قيم الشجاعة والنزاهة والمسؤولية.

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News")


المصدر : Transparency News