يوسف مرتضى- كاتب سياسي


في بداية شهر شباط من العام ٢٠١٧ وعلى أثر تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، أقيم احتفال في أشهر مطاعم موسكو، نظًمته إحدى الجهات الأمنية الرسمية الروسية احتفاءً بفوزه، دعي إليه جميع الصحافيين الأجانب المعتمدين في جمهورية روسيا الاتحادية، وعهد فيه لصديقي الروسي الديبلوماسي السابق وأشهر المحللين السياسيين الروس الناطقين باللغة العربية فيتشسلاف ماتوزف لإلقاء كلمة بهذه المناسبة كما أخبرني هو بذلك. النشوة الروسية بفوز ترامب صاحب شعاره أميركا أولاً، ونظراً لعلاقة الصداقة التي كانت تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما تعنيه تلك العلاقة بين قطبين هما الأكثر تأثيراً في النظام العالمي، دفع صديقي ماتوزوف لتضمين خطابه في ذاك الاحتفال، تشبيه فوز ترامب في العام ٢٠١٧ بالنسبة لروسيا بثورة أوكتوبر الروسية في العام ١٩١٧.

وهنا لا بد من إعادة التذكير بالتعهد الذي كانت ابدته الولايات المتحدة الأميركية للاتحاد السوفياتي أثر سقوط حائط برلين عام ١٩٨٩ بحل الحلف الأطلسي عند حل روسيا لحلف وارسو. غير أن الإدارات المتتالية التي حكمت أميركا بعد ذلك التاريخ لم تلتزم بتعهداتها، بينما اشتمت الإدارة الروسية من خطابات ترامب تمهيداً للانتخابات الرئاسية الأميركية في العام ٢٠١٦ توجهاً نحو علاقاتٍ دولية متوازنة خلافاً لنظام القطب الواحد الذي قادته أميركا في حقبة تسعينات القرن الماضي.

عودة ترامب إلى سدة الرئاسة في أميركا اليوم  يفتح بارقة أمل لدى العديد من المسؤولين والمحللين الروس بإمكانية التعاون الروسي-الأميركي، لإطفاء الحروب في الشرق الأوسط وفي أوروبا عبر تسوية عادلة للصراع الدائر حول أوكرانيا. في هذا التوجه تكمن مصلحة ترامب كما يرى العديد من المراقبين، ليتفرّغ إلى تنمية الوضع الاقتصادي الأميركي ويلبي تعهده للأميركيين" بجعل أميركا عظيمة مجدداً". وفي ذات الوقت يلبي حاجة العالم إلى السلام حيث يقف اليوم على حافة حرب نووية محتملة بما يشهده الشرق الأوسط من تصعيد في الحروب على أكثر من جبهة، وفي المواجهة الروسية مع الحلف الأطلسي في أوكرانيا بعدما أجاز بايدن لزلنسكي استخدام الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى ضد أهداف في العمق الروسي، ما دفع بوتين إلى وضع عقيدة نووية جديدة لروسيا تتناسب مع التهديدات الأطلسية الجديدة  عبر أوكرانيا.

لم تنقضِ أيام قليلة على نتائج الانتخابات الأميركية حتى بدأت مفاوضات مباشرة بين مستشاري الرئيسين ترامب وبوتن حول الملفات المختلفة يقودها من جانب الرئيس الروسي مستشاره للشؤون الدولية أوشاكوف، تمهيداً للقاء بين الرئيسين بعد تسلم ترامب منصبه في العشرين من كانون الثاني المقبل. وفي السياق نفسه زار مندوب بوتين الخاص للشرق الأوسط، نائب وزير الخارجية مخائيل بوغدانوف طهران في ١٩ من الجاري التقى فيها مع المسؤولين الإيرانيين، وتناول البحث معهم السبل الآيلة لمعالجة مختلف الأزمات في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وكان قد زار روسيا أيضاً بهذا الصدد وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي دريمر.

أثبتت التطورات المرافقة للعدوان الصهيوني على غزة ولبنان والممتدة لأكثر من ثلاثة عشر شهراً، والتي ارتكبت وما زالت ترتكب فيها  إسرائيل مجازر إبادة جماعية، ومتجاوزة كل القوانين والأعراف الدولية والقيم الأخلاقية والإنسانية، أن النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية قد فقد صلاحيته، وبات السلم العالمي  بسبب ذلك مهدداً فعلياً في ظل الفوضى التي تشهدها العلاقات الدولية المتفلتة من أية ضوابط، والمحكومة لمنطق القوة ، القوة الغاشمة على وجه التحديد.

من هنا حاجة العالم إلى نظامٍ عالميٍ جديد فعّال، نظام متعدد الأقطاب يراعي تمثيل القارات ومختلف مكوناتها الحضارية، نظام متحرر من حق النقض الفيتو، ويتأسس على مبادئ الديمقراطية،ويقوم على احترام حقوق الشعوب  وحريتها في تقرير مصيرها من دون أي تدخل خارجي ، وتطوير نظام العدالة الدولية وتفعيله وتُفرض إلزاميته على جميع الدول، كبيرها وصغيرها .

هذا النظام الذي دأبت العديد من القوى الدولية وفي مقدمتها روسيا على طرحه وتبنيه في السنوات الأخيرة، وما منظمة بريكس إلا أحد مظاهره. فهل تلاقي أميركا بعهد ترامب الجهود الدولية الطامحة إلى ذلك وتتخلى عن نظام القطب الواحد المفروض بالقوة والذي ثبت فشله بعد أقل من عقدين من قيامه بعد نهاية الحرب الباردة؟ أم أن عُتات القادة الأميركيين مما يعرّفون بالدولة العميقة، ومن رموزها الصهيوني بايدن، سيغامرون بالتمسّك بفكرة قيادة أميركا للعالم بالقوة مهما كلّف الثمن؟

وملفت في هذا المجال ما أقدم عليه بايدن في الأيام الأخيرة من حكمه، بإجازة استخدام الصواريخ البعيدة المدى الأميركية والأطلسية في أوكرانيا ضد العمق الروسي بهدف عرقلة مسيرة عهد ترامب المعوّل عليه روسياً وشرق أوسطياً، لدفع العالم نحو حافة الهاوية النووية ؟. وتفادياً لمخاطر ذلك نأمل أن لا يستجيب بوتين لهذا الاستفزاز الخطير، وأن يلبي ترامب أهداف الدولة العميقة في أميركا بتمسّكه  بخيار التفوق الاقتصادي بعيداً من الحروب، وأرى باختياره ألن ماسك كأحد أقرب المستشارين في إدارته مؤشراً محتملاً لذلك، وأن تتابع روسيا مساعيها مع ترامب والأخرين من المعنيين، نحو تبريد الصراعات وصولاً إلى تسويتها، وإرساء أسس نظامٍ عالمي جديد يحقق السلام والتقدم الدوليين.