ريمون متري


في غياب القضاء العادل والنزيه، تتحول مؤسسات الدولة إلى منظومة إجرامية متكاملة تنخر في جسد الوطن. هذه المنظومة تقوم على السرقات الممنهجة والفساد والإجرام بمختلف أشكاله، بدءًا من تفجير المرفأ وتهريب السلاح، والاغتيالات مرورًا بإدارة فاسدة، وتشريع سرقة الأموال العامة، ونهب أموال المودعين، وصولًا إلى حماية المسؤولين الفاسدين والمجرمين عبر الحصانات السياسية. هذه الجرائم تشكل جريمة منظمة تهدد وجود لبنان، وتحيله إلى دولة فاشلة تتآكل من الداخل.

عواقب غياب العدالة

تنهار الدولة، تتفكك مؤسساتها، ويفقد المجتمع وحدته. تصبح الدولة عاجزة عن حماية مواطنيها وجذب الاستثمار، مما يؤدي إلى تراجع الاقتصاد وزيادة الهجرة. المعركة اليوم ليست مجرد صراع سياسي، بل معركة وجودية: إما العدالة وإما الموت. وهذا ما يجب أن يدركه كل لبناني مهما كانت انتماءاته.

 (1975-1990)مرحلة ما بعد الحرب والاقتصاد 
 
بعد انتهاء الحرب، استفاد "الزعماء" من غياب المحاسبة. تم تمرير سياسات مالية كارثية، مثل تحويل ديون الدولة من الليرة اللبنانية إلى الدولار، بحجة "إعادة الثقة بالاقتصاد". هذه السياسات أدت إلى انهيار تدريجي للمالية العامة، وكانت نتيجة مباشرة لغياب الرقابة والإفلات من العقاب. 

التحالف الرباعي 2005

"التحالف الرباعي" عام 2005. هذا التحالف ضم القوات اللبنانية، والثنائي (حزب الله وحركة امل)، وتيار المستقبل، والحزب التقدمي الاشتراكي. كان الهدف الظاهري هو مواجهة مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكنه في العمق كان تقاسمًا للسلطة والنفوذ على حساب بناء دولة القانون.

مختلف الأحزاب تتحدث عن التغيير وتلقي التهم بعضها على بعض، لكنها في نهاية المطاف تجتمع على تقاسم المغانم وكأنها متفقة ضمنيًا على إبقاء الوضع على ما هو عليه. كل حزب يعمل على تحجيم الدولة ومؤسساتها لتناسب مصالحه الخاصة وأهدافه الضيقة، دون أدنى اهتمام ببناء دولة مؤسسات قائمة على أسس المحاسبة والشفافية.

المثال الأبرز: ميشال عون وازدواجية المواقف

الرئيس السابق ميشال عون يُعد مثالًا صارخًا لهذه العقلية. أصدر كتاب الإبراء المستحيل الذي كان بمثابة إعلان حرب على الفساد، لكن لم يكد يجف حبر الكتاب حتى دخل في شراكة سياسية مع الأطراف التي اتهمها علنًا بالفساد.

- القضاء على العدالة: رغم حصوله على أغلبية وزارية ونيابية كبيرة، لم يستغل هذه القوة لإجراء تغييرات حقيقية. كان بإمكانه أن يطلق مسارًا إصلاحيًا ينقذ لبنان، خاصة لو دعم خطة الرئيس الأول القاضي سهيل عبود التي كانت تهدف إلى تطهير القضاء من القضاة الفاسدين.

- أغلبية وزارية ونيابية بلا إنجازات: بدلًا من الإصلاح، اختار التحالف مع ميليشيا مسلحة، مما عزز سيطرة قوى السلاح غير الشرعي على القرار الوطني. ليس هذا فحسب، بل حمى كبار الفاسدين وأمعن في سياسة التنازلات، أبرزها التنازل عن الخط 29 الذي يمثل حقًا سياديًا للبنان.

حزب الله: القوة والسلاح محور التحالفات

العامل المشترك بين كل هذه التحالفات هو حزب الله، الذي يمثل قوة عسكرية مهيمنة تفرض واقعًا سياسيًا يناسب مصالحه ومصالح ملالي إيران. بينما ينقسم الباقون بين من يمثل السلاح ومن يغرق في مستنقع الفساد، يبقى الشعب اللبناني الخاسر الأكبر في ظل غياب مشروع وطني حقيقي.

هذه العقلية، القائمة على المصالح الضيقة وتقاسم الغنائم، هي التي أوصلت الدولة إلى حالة الانهيار التي نشهدها اليوم.

الإفلات من المحاسبة بعد اتفاق الطائف لم يكن مجرد تقصير في مواجهة الجرائم التي ارتكبت خلال تلك الفترة، بل كان عاملًا أساسيًا في تكوين منظومة فساد متجذرة في مؤسسات الدولة. هذا التجاهل المنهجي للمساءلة وضع الأسس لنظام سياسي وإداري قائم على المحاصصة والمحسوبيات، بدلًا من دولة القانون والمؤسسات.

بدلًا من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والفساد، اختارت القوى السياسية إعادة توزيع النفوذ والسلطة عبر اتفاقيات وتسويات، ما أدى إلى تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب. هذا المناخ سمح باستمرار الفساد في القطاعات الحيوية، وأدى تدريجيًا إلى الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعاني منه لبنان اليوم.

منذ ذلك الوقت، تحولت الدولة إلى أداة بيد الطبقة الحاكمة، تستخدمها لخدمة مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة، ما جعل أي محاولة لإصلاح النظام أو محاربة الفساد تواجه عراقيل ممنهجة. هذه الديناميكيات هي السبب الأساسي وراء الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها لبنان، حيث تآكلت مؤسسات الدولة وانعدمت ثقة المواطنين في القيادة السياسية.

لكن العبرة ليست في العودة إلى الماضي، بل في استخلاص الدروس: منذ سيطرة الاحتلال السوري، كان القضاء أداة للقمع. وبعد انسحابه، انتقلت السيطرة إلى حزب الله ومن يدورون في فلكه، مما حوّل القضاء إلى أداة طيّعة، باستثناء عدد من القضاة الشرفاء الذين ظلوا متمسكين بمبادئ العدالة والاستقلالية.
 
التشريع والقضاء

معظم المشرعين يشكلون جزءًا أساسيًا من منظومة الجريمة المنظمة، لذا من الطبيعي أنهم لم يسنّوا قوانين تمس مصالحهم. ولهذا السبب، لم يشهد لبنان أي محاكمات حقيقية تؤدي إلى محاسبة السياسيين في قضايا الفساد. والأخطر من ذلك، الهجوم غير المسبوق في تاريخ القضاء اللبناني من قبل مدعي عام التمييز السابق القاضي غسان عويدات، بدعم من طبقة سياسية فاسدة ومن حزب الله، على المحقق العدلي القاضي طارق البيطار بهدف عرقلة تحقيقاته ومنعه من استدعاء سياسيين، وعلى رأسهم رئيس مجلس الوزراء السابق حسان دياب.

القضاء والجيش كمرحلة انتقالية

لا يمكن للبنان أن ينهض إلا بخطوات استثنائية تعيد بناء الدولة من أساسها من خلال سلطة انتقالية مدعومة من الجيش لتحقيق:

١- إصلاح القضاء:
- محاسبة القضاة الفاسدين وتشديد العقوبات. 
- إعلان استقلالية القضاء، ووضع ضوابط صارمة تمنع التدخلات السياسية والإفلات من العقاب. - 
- تحسين ظروف عمل القضاة، وتأمين حياة كريمة لهم.

٢- محاسبة شاملة:
- فتح كل ملفات الفساد دون استثناء وإلغاء جميع الحصانات.
- محاكمة المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي وتفجير المرفأ وسرقة الأموال العامة والعمل على استعادتها.

٣- إدارة كفؤة للدولة:  
- توظيف أشخاص يتمتعون بالكفاءة والأخلاق في جميع القطاعات
- محاسبة المسؤولين عن الإخفاقات
- إعادة هيكلة جميع الإدارات ورقمنة الخدمات العامة  
(Digitizing Public Services)

بناء دولة القانون

القضاء المستقل والنزيه هو أساس بناء لبنان جديد. عندما تتحقق العدالة، تزول الهواجس الطائفية، ويستعيد المواطنون الثقة بالدولة، ما يعزز النمو الاقتصادي والاستقرار ويستقيم السياسيين خوفاً من المحاسبة.

لبنان بحاجة إلى نهضة بإصلاح النظام القضائي وتعزيز دور الجيش، مع الاستجابة لمطالب الشعب بتحقيق العدالة كشرط أساسي لقيام الدولة. دون ذلك، سيبقى البلد غارقًا في الفوضى والفساد. 

الانتقال من حكم الجريمة المنظمة إلى دولة القانون والمؤسسات يعد تحديًا بالغ الصعوبة، نظرًا لسيطرة هذه المنظومة على كافة مفاصل الدولة، بما في ذلك السلطتين التشريعية والتنفيذية. إلا أن هذا التحول يصبح ممكنًا في حال انتخاب رئيس جمهورية بمواصفات رجل دولة وبدعم دولي.

مواصفات الرئيس المطلوب والمهام الملقاة على عاتقه:

- يَحْكُم ولا يُحْكَمْ. 
- حاكم وليس حَكَمْ. 
- يَرأس ولا يُرأس. 
- يحرر القضاء ويعزز دوره. 
- يُسْقِط جميع الحصانات. 
- يعتمد المحاسبة الشاملة نهجًا أساسياً. 
- يعلن الحرب على الفساد بلا هوادة. -

حل بديل

فرض سلطة انتقالية من قبل الأمم المتحدة لتولي إدارة البلاد، إعادة هيكلة القضاء، تحديث القوانين، وتطبيق مبدأ سيادة القانون على الجميع.

دور المجتمع الدولي

أعوّل على فريق الرئيس ترامب، وخاصة الفريق اللبناني الأصل، للعمل على تفعيل قوانين أميركية تلاحق المسؤولين اللبنانيين الذين ارتكبوا جرائم كبرى. يشمل ذلك تجميد حساباتهم والأصول العائدة لهم بشكل مباشر أو عبر وسطاء وشركات وهمية، واستصدار مذكرات توقيف دولية بحقهم. هذه الإجراءات ستساهم في إبعادهم عن مراكز السلطة ووقف تسلطهم.

العدالة والديمقراطية

أساس الحياة يقوم على ميزان دقيق، فلا يمكن أن يتحقق أي إصلاح دون توازن. الديمقراطية في يد المجرمين تفقد معناها، إذ أن العدالة يجب أن تكون فوق الديمقراطية، لأن الديمقراطية لا تكتمل إلا بوجود محاسبة تضمن التوازن المطلوب.

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News")


المصدر : Transparency News