للمرة الأولى منذ خمس سنوات، اشتعلت جبهات الشمال السوري من جديد، مع هجوم واسع النطاق شنّته “هيئة تحرير الشام” وفصائل من الجيش السوري المعارض، بدعم من قوات تركية، على مناطق في إدلب وحلب. المشهد العسكري يتسم بتقدم القوات المهاجمة وتراجع الجيش السوري النظامي، في ظل زيارة مفاجئة للرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو.


قراءة في توقيت المعارك ودلالاتها

جاء هذا التصعيد بعد 24 ساعة فقط من سريان وقف إطلاق النار في جنوب لبنان بين إسرائيل وحزب الله، ما يثير تساؤلات حول وجود رابط بين تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للأسد من أنه “يلعب بالنار” وبين هذه المعارك.

الهجوم الأخير يحمل في طياته أهدافاً متعددة، أبرزها تقليص الحضور الإيراني في سوريا. وأكدت وكالة “تسنيم” الإيرانية مقتل العميد كيومرث بور هاشمي المعروف بـ”الحاج هاشم”، وهو أحد كبار المستشارين العسكريين الإيرانيين في حلب. هذه الخسارة تعكس مدى استهداف النفوذ الإيراني على الأرض السورية، لا سيما مع الوضع الهش لحزب الله الذي خرج منهكاً من معركته مع إسرائيل، مما يحد من قدرته على التحرك بحرية بين سوريا ولبنان.

تركيا: عودة إلى ساحة النفوذ

الهجوم الجديد يفتح نافذة لفهم التحركات التركية في الشمال السوري. بعدما خسر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفوذه في غزة إثر تراجع دور حركة حماس الموالية له، يبدو أن تركيا تسعى لتعويض هذه الخسارة من خلال دعم “هيئة تحرير الشام”، فصيل إسلامي يتقاطع أيديولوجياً مع أردوغان.

هذا التصعيد يأتي في سياق محاولات أنقرة لتطبيع العلاقات مع دمشق، لكنّ الأسد لم يُظهر حماساً لهذه الخطوات، ما دفع تركيا إلى دعم الفصائل المعارضة في محاولة لتأمين مصالحها في المنطقة.

تقاطع المصالح الإقليمية والدولية

المشهد السوري يشهد تداخلاً معقداً بين المصالح الإقليمية والدولية. هناك توافق ضمني بين أطراف عدة على ضرورة إضعاف الدور الإيراني والروسي في سوريا:

• إيران: تستهدف التحركات الأخيرة تقليص أذرعها العسكرية وإعادتها إلى داخل حدودها.

• روسيا: إشغالها عسكرياً في سوريا يهدف إلى تخفيف الضغط على جبهة أوكرانيا، في رسالة غربية واضحة لموسكو بضرورة فك الارتباط مع طهران وتقليص التنسيق العسكري بينهما.

استنتاجات وتوقعات

ما يجري في الشمال السوري ليس حدثاً معزولاً، بل يأتي في إطار ديناميكيات إقليمية ودولية متسارعة، منها:

1. إضعاف النفوذ الإيراني: الهجوم جزء من معركة واسعة تشمل أكثر من جبهة لاستهداف الأذرع الإيرانية في المنطقة.

2. التحضير للمرحلة المقبلة: الأطراف الإقليمية تعيد ترتيب أوراقها تحضيراً لمواكبة سياسة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، الذي يتجه إلى تقليص الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، مع تصعيد الضغوط على إيران.

الأسد بين الفرص الضائعة والتحديات المقبلة

دفع الرئيس السوري ثمن عدم استثماره في المبادرات العربية التي فتحت له باب الخروج من العباءة الإيرانية. ورغم إعادته إلى الجامعة العربية، لم يقدم أي خطوات إصلاحية تتماشى مع المشروع العربي، مكتفياً بالعودة الشكلية دون تحقيق اختراق حقيقي.

كما فشل الأسد في الاستفادة من تحسن العلاقات العربية-التركية، والعلاقات الاستراتيجية بين العرب وروسيا، واستمر في اللعب على التناقضات بين الحلفاء، ما أدى إلى فقدانه للفرصة الوحيدة للحصول على دعم عربي حقيقي لإعادة الإعمار واستقرار بلاده.

المعارك الدائرة في الشمال السوري ليست سوى فصل جديد من صراع معقد يمتد عبر الإقليم. بشار الأسد يواجه اليوم ضغوطاً متزايدة، من الداخل والخارج، بينما يعيد اللاعبون الإقليميون والدوليون رسم معالم المشهد السوري بما يخدم مصالحهم، على حساب نظام يرفض حتى الآن التكيف مع المتغيرات.


المصدر : Transparency News