خاص- شرق أوسط جديد: المصالح تُسقط الأيديولوجيا
12-12-2024 11:33 AM GMT+02:00
تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات جيوسياسية جوهرية تُعيد رسم خارطة القوى والتوازنات الإقليمية. هذه التحولات ليست مجرد أحداث متفرقة، بل هي نتاج لتغيرات استراتيجية متسارعة تُعيد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، حيث تبرز المصالح المشتركة على حساب الأيديولوجيات التقليدية.
تراجع النفوذ الإيراني وتبدُّل الاستراتيجيات
شهد النفوذ الإيراني تراجعًا ملموسًا في السنوات الأخيرة، وتُرجم ذلك بقبول "حزب الله" باتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، الذي تم بوساطة أمريكية وفرنسية. لم يكن هذا الاتفاق مجرد خطوة نحو تسوية نزاع مؤقت، بل شكّل ضربة استراتيجية للحزب الذي اعتمد طويلًا على وجوده الحدودي المباشر مع إسرائيل كذريعة لتعزيز ترسانته العسكرية تحت شعار "المقاومة". بتقليص هذه الذريعة، يفقد الحزب ورقة ضغط أساسية، مما ينعكس سلبًا على النفوذ الإيراني في الساحة اللبنانية.
في سوريا، استهدفت الغارات الإسرائيلية على مدى سنوات مواقع إيرانية حساسة، بما في ذلك مراكز تطوير الصواريخ والطائرات المُسيَّرة. هذه العمليات، التي تتم غالبًا بتنسيق ضمني مع روسيا، تعكس تصميمًا دوليًا واضحًا على تقليص الوجود الإيراني وإضعاف قدراته العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، وسّعت الجماعات المدعومة من تركيا عملياتها العسكرية في شمال سوريا تحت ذريعة إجبار الأسد على تطبيع العلاقات من جهة وإبعاد خطر الجماعات الكردية عنها، مما يحد من نفوذ إيران وحلفائها في تلك المناطق ويُعيد تشكيل خارطة التحالفات الإقليمية.
إسرائيل: تعزيز المكاسب وترسيخ المصالح
استغلّت إسرائيل هذه التحولات لتعزيز أمنها القومي وتحقيق مكاسب استراتيجية. فإلى جانب تطبيع العلاقات مع دول عربية في إطار "اتفاقيات إبراهيم"، تسعى إسرائيل إلى تحييد التهديدات على حدودها الشمالية والشرقية. تقليص نفوذ "حزب الله" وإيران يعني تقليل المخاطر الأمنية وفتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع دول المنطقة. كما تعمل على ترسيخ وجودها كقوة إقليمية محورية، مستفيدةً من مشاريع اقتصادية كبرى، مثل الممرات التجارية التي تربط الخليج بالبحر المتوسط عبر أراضيها.
الولايات المتحدة وتركيا: إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية
تلعب الولايات المتحدة دور المُنظِّم في هذه التحولات، ساعيةً إلى إضعاف إيران وحلفائها من خلال دعم العمليات الإسرائيلية والتركية التي تستهدف المصالح الإيرانية. تعمل واشنطن على تعزيز دور تركيا كحليف استراتيجي، بالسماح لها بتوسيع نفوذها في سوريا، مما يُوازن بين التطلعات الكردية والمصالح الإقليمية، ويضمن أمن إسرائيل عبر ترتيبات أمنية واتفاقيات تطبيع تُرسخ وجودها الإقليمي.
بالإضافة إلى ذلك، تُخطط الولايات المتحدة لتأسيس كيان كردي في شمال سوريا، يفصل بينه وبين تركيا منطقة آمنة، مما يضمن أمن أنقرة ويراعي مخاوفها، ويكون مرتبطًا بأكراد العراق. هذا الكيان يُشكّل ورقة ضغط على إيران في ساحتها الخلفية، حيث تواجه طهران ضغوطًا متزايدة من الأقلية الكردية الإيرانية الساعية إلى الوحدة مع بقية الكيانات الكردية في دولة مستقلة، ما يجعل الحدود الإيرانية مسرحًا محتملاً لنفوذ أمريكي وإسرائيلي مباشر.
من جانبها، تُعيد تركيا تموضعها كقوة إقليمية رئيسية، مستفيدةً من دعم الولايات المتحدة وعلاقاتها المتوازنة مع روسيا، مما يُحرج إيران. فبالإضافة إلى عملياتها العسكرية في سوريا لتأمين الداخل التركي وإبعاد ما تعتبره خطر الأكراد عبر إنشاء منطقة فاصلة، تسعى أنقرة أيضًا إلى لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية. هذا التوجه يُعزّز موقعها الجيوسياسي ويفتح أمامها فرصًا اقتصادية وسياسية جديدة، مما يُمكّنها من تحقيق مكاسب استراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
بينما تسعى الولايات المتحدة وتركيا إلى إعادة تشكيل الأوضاع في سوريا، تلعب روسيا دورًا محوريًا كوسيط وموازن بين القوى الإقليمية والدولية. تحافظ موسكو على علاقات استراتيجية مع أنقرة من خلال التنسيق العسكري والسياسي لضمان استقرار مناطق نفوذها في سوريا، وتسعى أيضًا للحفاظ على تقاربها مع إيران كحليف استراتيجي في مواجهة الضغوط الغربية، خاصة في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، تدير روسيا تفاهمات غير معلنة مع الولايات المتحدة وإسرائيل لضمان تحجيم النفوذ الإيراني بما يضمن أمن إسرائيل.
إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي: من الأيديولوجيا إلى البراغماتية
تمهّد هذه التحولات لظهور شرق أوسط جديد يتميّز بتراجع المحاور التقليدية، مثل "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، لصالح تحالفات أكثر براغماتية وغير عقائدية. تحالفات تتشابك فيها المصالح وتتعاون بشكل انتقائي حول قضايا محددة، بدلاً من التزامات شاملة تغطي كل المجالات. يشهد الشرق الأوسط بروز مشاريع إقليمية مبتكرة، مثل إنشاء ممرات تجارية تربط الخليج بالبحر المتوسط عبر إسرائيل، مما يُعزّز التكامل الاقتصادي في المنطقة. وفي الوقت نفسه، يُعاد ترتيب المصالح الدولية، حيث تتلاقى أهداف القوى الكبرى في تحقيق استقرار نسبي يضمن تدفّق الطاقة والتجارة، ويُعزّز فرص التنمية والازدهار.
الرهانات المستقبلية والتكيف الاستراتيجي
تواجه إيران اليوم تحديات وجودية تستدعي إعادة تقييم استراتيجياتها. فقد أثّرت العقوبات الاقتصادية الدولية بشكل كبير على اقتصادها، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية وتصاعد الاحتجاجات الشعبية المتكررة نتيجة الظروف الاقتصادية السيئة. هذه الضغوط الداخلية والخارجية تدفع طهران نحو التكيّف مع فكرة عدم تصدير الثورة، والتركيز على المحافظة على استقرار النظام والتواضع في طموحاتها الإقليمية. هذا التحول قد يُسهم في إعادة رسم ملامح دورها في المنطقة، ويدفعها نحو التعقّل في العلاقات الخارجية مع دول الجوار، واختيار الدبلوماسية لإعادة بناء الثقة، مع ما يتضمنه ذلك من انتقال سلس للسلطة بعد خامنئي.
في المقابل، يتعين على الدول العربية والإقليمية إدراك أن المرحلة المقبلة تتطلب تبنّي سياسات مرنة ومبتكرة لمواكبة التغيرات السريعة. ينبغي للأنظمة العربية انتهاج أساليب أكثر ديناميكية تتكيّف مع الظروف المتغيرة، والتعامل بمرونة مع كل حدث سياسي دون التصلّب في المواقف، بما ينسجم مع النمط الجديد السائد في المنطقة. كما أن بناء تحالفات جديدة ترتكز على المصالح المشتركة بدلاً من الأيديولوجيات أصبح ضرورة ملحّة، تماشياً مع التحولات الجارية. بالإضافة إلى ذلك، يمثّل استثمار الفرص الاقتصادية الناجمة عن المشاريع الإقليمية والتكامل الاقتصادي خطوة أساسية لتعزيز الاستقرار والازدهار في المنطقة.
يقف الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة تاريخية تُعيد تشكيل ملامحه الجيوسياسية. القوى التقليدية تتراجع، وتبرز قوى وتحالفات جديدة تسعى إلى ملء الفراغ وتحقيق مصالحها. التحدّي الأكبر يكمن في قدرة دول المنطقة على التكيّف مع هذه التحولات واستثمارها لتحقيق الاستقرار والازدهار.
القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تُدير المشهد بحنكة لتحقيق توازن يخدم مصالحها الاستراتيجية، فيما تسعى إسرائيل إلى تعزيز مكاسبها وترسيخ وجودها الإقليمي. الرهان الآن على قدرة الدول الإقليمية على صياغة مستقبلها بأيديها، بعيدًا عن التدخلات الخارجية والصراعات العقيمة. الفرصة متاحة لبناء شرق أوسط جديد قائم على المصالح المشتركة والتعاون الإقليمي، مما يُمهّد لمرحلة من الاستقرار والرخاء.