من وعد بلفور إلى "طوفان الأقصى": انتكاسات القضية الفلسطينية بين أوهام الداخل وأطماع الخارج
16-12-2024 10:45 AM GMT+02:00
مرّت القضية الفلسطينية بمراحل متعدّدة، ارتبط كل منها بهزيمة جديدة؛ بدءًا من الانتداب البريطاني مرورًا بنكبة عام 1948، وما تلاها من نكسة 1967، إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وصولًا إلى مسارات التسوية الهشّة والصدام الدامي – في الداخل الفلسطيني وخارجه – التي زادت الوضع تعقيدًا.
في هذا التقرير متعدّد الأجزاء، نحاول تسليط الضوء على الأسباب الرئيسة لترنّح فلسطين كقضية شعبية ووطنية، وتحليل كيفية تحوُّل الهزائم العسكرية والسياسية إلى كتلة عقبات تقوّض مستقبلها. كما نستعرض تسلسلًا تاريخيًا للانكسارات، وكيف أن كل طرف منهزم، سواء أكان دولة أو فصيلًا أو نظامًا، ألقى بثقله على كاهل الشعب الفلسطيني، ليبلغ “الطوفان” أقصاه. هي لحظة تبدو فيها القضية الفلسطينية على شفير نقطة اللاعودة، أمام سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد هو الآخر.
فلسطين بين ألمانيا القيصرية والحركة العربية
في حديث لجريدة “الحرة”، يشير المؤرخ والباحث في الشؤون اللبنانية، الدكتور عبد الرؤوف سنّو، إلى أن العرب ورثوا العلاقات مع ألمانيا من الدولة العثمانية التي تحالفت معها خلال الحرب العالمية الأولى ضد دول “الوفاق الودّي”، أي بريطانيا، فرنسا وروسيا.
“عند قيام التحالف الألماني – العثماني، كان قسم كبير من العرب والمسلمين معجبين بألمانيا التي لم تمارس سياسة استعمارية كغيرها من الدول تجاه البلاد العربية والإسلامية. وهذا مكّنها من أن تشترط على السلطان العثماني إعلان “الجهاد المقدس” ضد دول الوفاق. واللافت والغريب كان صدور إعلان “الجهاد المقدس” لمصلحة دولة مسيحية هي ألمانيا، واستثناء دول مسيحية أخرى منه هي بريطانيا وفرنسا وروسيا”.
دقّ وعد بلفور في العام 1917 ناقوس الخطر على أبواب الحركة القومية العربية وبوجه الشعب الفلسطيني. ففتح باب الاستيطان أمام اليهود، وإن صيغ مواربة بداعي الحفاظ على حقوق ذلك الشعب. كذلك، وجدت ألمانيا أن الإعلان يزيد من تعاطف يهود أميركا مع بريطانيا، ما اعتبرت أنه لا يصبّ في مصلحتها.
وكانت ألمانيا القيصرية تتعاطف منذ بداية الحرب العالمية الأولى مع هجرة يهودية إلى فلسطين من مفهوم إنساني، باعتبار أن من شأن الهجرة تحسين الوضع المالي للسلطنة العثمانية. غير أن ألمانيا لم تدعم هذا المشروع باعتباره “صهيونيًا سياسيًا” خشية إثارة الدولة العثمانية، ولم يكن هناك أي مبرر لألمانيا آنذاك لدعم الصهيونية. فماذا حصل بُعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى؟
يجيب سنّو: “تحوّل التعاطف الألماني تجاه هجرة اليهود إلى فلسطين إلى إعلان ألمانيا حمايتها للمستوطنات اليهودية في فلسطين، وتقرّبت من زعماء المنظمة الصهيونية العالمية للتأثير في الولايات المتحدة من أجل البقاء على الحياد في الحرب. وتغيّر موقف ألمانيا من اليهود بعد تصريح بلفور ودخول الولايات المتحدة الحرب، فمورست ضغوط يهودية وألمانية على الحكومة الألمانية لإصدار تصريح على نسق بلفور، بحجة أن وجود اليهود في فلسطين سيعزّز من سيادة السلطنة على العرب كي لا يثوروا عليها”.
في كانون الثاني/يناير 1918، أي في العام الذي تلا احتلال الإنكليز لفلسطين والذي بدّد أي أمل للعثمانيين باستعادتها، صدر تصريح ألماني بموافقة عثمانية على دعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فيما ادّعت المنظمة الصهيونية العالمية أن لا أهداف سياسية لها هناك. وأنشأت ألمانيا “قسم شؤون اليهود” في وزارة الخارجية، ثم تأسّست بتشجيع من الحكومة الألمانية “اللجنة الألمانية لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين”.
يفسّر سنّو ما حصل قائلًا: “تبيّن أن المانيا كما بريطانيا لم يعنيهما من قضية فلسطين سوى تحقيق مصالحهما. وهكذا، كان هناك جهاد معلن مثلّث الرؤوس خلال الحرب: الأول عثماني يخدم ألمانيا؛ والثاني بريطاني أعلنه الشريف حسين؛ والثالث فرنسي أعلنه سلطان المغرب. أما القاسم المشترك بين الثلاثة، فكان خطب ودّ العرب والمسلمين. ولم تتوانَ ألمانيا وبريطانيا عن دعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. والمعروف أن الأولى جنّدت أسرى عربًا لديها للقتال ضد الثانية وفرنسا”.
اتصالات الحسيني وهتلر
لم يكن مفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني، وحده من راهن على أدولف هتلر لدعم القضية الفلسطينية. فكثيرون من العرب والمسلمين الذين كانوا يكنّون الكراهية للاستعمارين البريطاني والفرنسي تطلّعوا إلى هتلر كمنقذ، على الأقل بالنسبة إلى الفلسطينيين، وذلك نظرًا لكراهية النازية لليهود الألمان. في هذا السياق، يرى سنّو أن التقارب بين الحركة العربية وألمانيا لا يعود إلى محبة العرب للنازية وتأييدها، بل إلى سياسة هتلر المعادية لليهود، والتي جعلت الفريقين ينطلقان من مقولة: “عدوّ عدوّي صديقي”… وأيضًا حليفي.
هنا، ثمة من يتحدث على اللقاء التاريخي الذي جمع الحسيني بهتلر في تشرين الثاني/نوفمبر 1941، والذي سبقه لقاء الحسيني بزعيم الفاشية الإيطالي بينيتو موسوليني. وقد استغلّت المنظمة الصهيونية العالمية اللقاء لترويج فكرة “نازية” العرب، وتحالفهم مع ألمانيا للقضاء على اليهود، وهو ما جرى تضخيمه من خلال السطوة الصهيونية على الإعلام في أميركا.
فهل زار الحسيني فعلًا محارق اليهود؟ “لا يوجد دليل على ذلك. لكن من الثابت أن وكيل وزارة الخارجية الألمانية لم ينبس ببنت شفة عن فلسطين، عندما أصدر بيانًا ردًا على الرسالة التي وجّهها الحسيني إلى هتلر للتعاون معًا ضد اليهود. واقتصر الكلام على استقلال العرب استقلالًا تامًا، وكفاح العرب وألمانيا معًا ضد الإنكليز واليهود. وفي الاجتماع بين هتلر والحسيني، قال الأوّل إنه سوف يعمل خطوة خطوة دون انقطاع لحل المسألة اليهودية. ولم يصدر أي تصريح عنه أو عن ألمانيا بشأن أماني العرب والفلسطينيين بالاستقلال، على عكس طلب الحسيني. هكذا، راح الأخير يسوّق للنازية والفاشية حتى العام 1945”.
بدوره، لم يشكّل اتفاق الترانسفير بين هتلر والمنظمة الصهيونية العالمية في العام 1933 – والذي سمح لليهود الألمان بالهجرة إلى فلسطين مع نقل بعض ممتلكاتهم إليها – أي تحذير للفلسطينيين من ناحية أن فلسطين لم تكن تعني هتلر بتاتًا، ذلك أنه كان يعتبر المنطقة العربية من مناطق النفوذ الإيطالية أو حكومة فيشي الفرنسية. فجلّ ما كان يهم المستشار الألماني هو نفط العراق. وهكذا، أضاع الحسيني سنوات يروّج خلالها للدعاية الألمانية دون أي فائدة للقضية الفلسطينية.
من الأوهام الهتلرية إلى الرهان على العرب والناصرية. توالي انتكاسات القضية الفلسطينية نناقشها مع الدكتور سنّو في الجزء الثاني.
المصدر : الحرة ـ كارين عبد النور