بيار جبّور


كان ذلك صباح يوم الخميس، الحادي والعشرين من أيلول عام 2000، اليوم الذي تبع نداء المطارنة التاريخي. كنت أتوجه إلى عملي الروتيني في دير عمار (شمال لبنان)، حيث شغلت حينها منصب مدير السلامة العامة في شركة أجنبية. فجأة، تحولت حياتي رأسًا على عقب. عند حاجز جسر المدفون أوقفني عناصر المخابرات السورية مع زميليَّ في العمل اللذين كانا برفقتي في السيارة. تسلل الشك إلى قلبي عندما طلبوا منا أوراقنا الثبوتية. لم أكن أتوقع هذا الإجراء غير المعتاد، فأنا أعبر هذا الحاجز يوميًا بلا أي مشاكل.

حينها، حبست أنفاسي، وأعينهم المجرمة تتفصحني. "بطرس جبّور؟" قالها بسخرية، بعد رؤية بطاقتي. سؤاله بعدها عن اسم والدتي أكد له انني المطلوب. أشار إلي بيده، وأمرني بالنزول من السيارة تاركاً لرفيقي حرية اكمال طريقهما، بينما بقيت أنا تحت رحمتهم، ظناً منهم انني سأكون لقمة سائغة بين أيديهم. احتجزوني في حاوية من الصلب. ثم نقلوني بسيارتي إلى مركز قيادتهم الذي لا يبعد كثيرًا عن الحاجز. كان أشبه بمرتع خنازير متعفن، أكثر منه بمقر أمني.

صرخ العنصر في وجهي: "انتظر هنا ولا تتحرك! الضابط يريدك".

بصفتي ضابطًا سابقًا في فرقة "الصدم"، كنت مدربًا على اتخاذ قرارات حاسمة تحت الضغط الشديد. الهروب السريع والدقيق كان جزءًا لا يتجزأ من تدريبي، وقد استعددت جيدًا لمثل هذه المواقف.

عاد الجندي "التيمورلنكي" قائلاً: "الضابط نائم. خذ هذه الورقة واكتب سيرتك الذاتية".

منذ العام 1994، اعتقلت مرارًا وتكرارًا على يد مخابرات الجيش اللبناني، التي كانت تمثل ذراع النظام الأمني السوري في لبنان. كانت كل اعتقال نسخة طبق الأصل عن سابقه، وكأنني أدخل نفس الغرفة المظلمة مرارًا وتكرارًا... باختصار بزّة عسكرية مختلفة من المدرسة نفسها.

شرعت في كتابة حكاية تشبه ألف ليلة وليلة، متشبثًا بهويتي كعضو في "القوات اللبنانية". وفي خضم ذلك، وصل خبر اعتقالي إلى أخي بول بفضل زميلي اللذين كانا معي. تحرك بول سريعًا، متصلًا بكل من يستطيع لإنقاذي قبل أن أضيع في متاهات النظام.

عاد الجندي وسألني بنبرة تحدٍ: "هل انتهيت؟". أجبت: "نعم، انتهيت"، مضيفاً: "اعتقلت مرات كثيرة لدى وزارة الدفاع اللبنانية. اعتادوا استدعائي أسبوعياً تقريبًا لاستجوابي حول أنشطتي، وهم على دراية بكل ما كتبته هنا".

بصوت جهوري مليء بالسخرية والتهديد، قال: "هؤلاء الأوغاد يعملون لصالحنا. نحن سادة هذا البلد، والبقية مجرد أدوات نستخدمها كيفما نشاء. ابق هنا حتى يستيقظ الضابط"... وأنصرف.

بينما كنت جالساً انتظر هناك، وقعت عيناي على بندقية كلاشينكوف المدعومة بالباب فابتسمت ساخرًا. كانت تهديدًا، لكنها كانت أيضًا تحديًا. هل أستسلم أم أقاتل؟ الإجابة كانت واضحة. لن أسمح لهم بكسر إرادتي وأن يكون مصيري المحتوم: طريق عنجر، ثمّ مسالخ الأسد البشرية. بدأت أحسب خطواتي، وأخطط للهروب. كنت أعرف أن الأمر لن يكون سهلاً، وكل ما كنت أتمناه أن يكون الممشط محملاً بالرصاص. ثقتي بنفسي وبتدريباتي العسكرية كانت وقودي. بدأت خطة الهروب تتبلور في ذهني. خطة دقيقة تعتمد على حساباتي الدقيقة، ومعرفتي بالمنطقة، بصفتي ضابط عمليات سابق في "القوات اللبنانية" للمنطقة الشمالية الساحلية حيث قضيت ثلاث سنوات أستطلعها، أدرس تضاريسها وأخطط للدفاع عنها. لم يكن أمامي أي خيار سوى المواجهة. لن أسلم نفسي لهم حيًا... فالموت أفضل ألف مرة من أن أكون أسيرًا في قبضتهم.

بعد نحو ساعة من الانتظار، عاد الجندي بصوت جاف: "اذهب إلى منزلك وخذ هذا الرقم، وتأكد من الاتصال بالضابط فور عودتك."

بالتأكيد لم أتصل بأحد، وتركت عملي بعدها الى غير رجعة.

في البداية، صدمت من سهولة الأمر. فيما بعد، اكتشفت أن أخي بول اشترى حريتي برشوة ضخمة للضابط، بمساعدة أحد أقارب والدتي، وهو رجل أعمال نافذ يمتلك مصنعًا كبيرًا للخشب في البترون. كان هذا الرجل يدفع رشاوى ضخمة للمسؤولين السوريين للحفاظ على أعماله. هكذا كان يعمل النظام الأسدي المجرم والفاسد بالتنسيق التام مع اصدقائهم في الأجهزة الأمنية اللبنانية آنذاك.


المصدر : Transparency News