كارين عبد النور


بين جنبات أزقة مدينة جبيل العريقة، حيث تُحاك تفاصيل الزمن بإبرة هدوء البحر وهمس التاريخ، يبرز متحف “ذاكرة الزمن” للأسماك المتحجّرة كملاذٍ للأمل وسط ركام الأسى والحرب. فأزمات لبنان لم تحُل دون أن يطلّ المتحف كرسالة صمود. رسالة تأكيد على أن التاريخ ليس مجرّد حكايات تُروى، بل مصدر إلهام يُعيد إشعال فتيل الأمل. وثمة في ذلك ما يُعيد أيضاً للّبنانيين شيئًا من ماضيهم الحيّ رغم كل شيء.


بدأت قصة “ذاكرة الزمن” في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي مع عائلة أبي سعد، حيث كان يعمل الجدّ جريس، المولود في بلدة إهمج، كمساعد لقوات الانتداب الفرنسي في قرى بلاد جبيل الجبلية. وكان جريس ينقل الطعام على ظهر دابّته بين قرى المنطقة، إضافة إلى معدات التزلّج الخاصة بالضباط الفرنسيين الذين درجوا على ممارسة هوايتهم فوق منحدرات جبل اللقلوق.

ذات مرّة، عثر جريس على سمكة متحجّرة في بلدة حاقل، ضمن قضاء جبيل، وأراها في ما بعد لأحد الضباط الفرنسيين الذي عرض لقاءها مبلغًا كبيرًا من المال يوازي أجر يومَيّ عمل. فأدرك الجدّ حينها أهمية الكنز الذي بحوزته، فما كان منه إلّا أن شجّع ابنه مخايل على امتلاك قطعة أرض في حاقل بعائدات بيع الأحافير إلى الجنود الفرنسيين. وهكذا حصل.

دارت الأيام وأراد مخايل نقْل شغفه هذا إلى أبنائه وبناته؛ جورج، جوزيف، لور، بيار وألبير. وكان له ما أراد. فاليوم، يعمل جيل العائلة الثالث لنقل خبراته إلى خلفه ضمانًا لاستمرار وازدهار العمل الذي امتهنته العائلة، حيث كرّست – على مدى السنوات وبمساعدة العمال المؤهلين – كافة إمكاناتها للتنقيب عن هذا العالَم المنسيّ منذ ملايين السنين.

يوم الأحد الماضي، وبمناسبة افتتاح “ذاكرة الزمن” متحفها الجديد الواقع في الجهة المقابلة لمتحفها السابق في سوق جبيل القديم، سعيًا لتحقيق حلم راودها منذ زمن، قامت الجمعية اللبنانية لدراسة الأحفوريات والتطوّر بتكريم العضو بيار أبي سعد، صاحب المتحف الجبيلي.



المتحف، الذي يضمّ مجموعة فريدة من الأسماك المتحجّرة، يُعتبر أحد أهم المتاحف العالمية في هذا المجال. ومن أبرز معروضاته: سمكة قرش مكتملة بطول 3.8 متر (وهي الأطول والأكبر من نوعها في العالم)، وسمكة المنشار بطول 1.78 متر (التي تعدّ الأطول في العالم أيضًا). هذا إضافة إلى حوالى 800 نوع سمك مكتشَف ومختلِف، يعبق كل منها بقصة وتاريخ ضارب ملايين السنين في القِدم.

تتكوّن “ذاكرة الزمن” من أربعة أقسام مترابطة:

  • المواقع حيث توجد الأسماك البحرية المتحجّرة.
  • المختبر حيث يقوم متخصّصون مدرَّبون بتحضير الأسماك المتحجّرة المكتشفة.
  • المتحف حيث تُعرض بعض العيّنات النادرة.
  • المتجر حيث تُباع بعض الأسماك المتحجّرة مرفقة بشهادات علمية خاصة بها، علمًا بأن العائلة أبت بيع أي أحفورية قبل جمع ما لا يقلّ عن 100 نموذج حي للأسماك المتحجّرة بهدف الدراسة والايداع في المتاحف الوطنية المتخصّصة.

لمزيد من التفاصيل، تواصلت جريدة “الحرة” مع الأستاذ بيار أبي سعد، الذي أشار إلى أن ما وصلت إليه العائلة هو نتاج عمل 90 سنة تناقلته أجيال ثلاثة. “نحاول اليوم نقل هذا العمل إلى الجيل الرابع، أي أولادنا. فلولا الشغف لما أكملنا. لدينا أهم مجموعة من الأسماك المتحجّرة في العالم كون لبنان يحتوي على أكبر تعدّدية لأنواع الأسماك تلك مقارنة بدول العالم”.

ويشرح أبي سعد، تعريفًا، أن الأسماك المتحجّرة تعود لأكثر من 100 مليون سنة، وقد نفقت داخل المياه بسبب انقطاع الأكسجين. ونتيجة لذلك، لم تتحلّل بسرعة، فتكوّنت عليها الترسّبات بمرور الوقت وتحجّرت لتبقى السمكة محفوظة داخلها. فالحجر هو الذي يتشكّل حول السمكة وليس العكس.

فريق العمل الذي يتألف من 45 شخصاً، إضافة إلى أفراد العائلة، يكابِد للاستمرار رغم الظروف. “كانت السنة الماضية من أسوأ السنوات التي مرّت علينا. لا أدري كم يمكننا أن نستمر لكن سنتمسّك بالأمل ولن نستسلم”.



نسبة الإقبال في المتجر، حيث يباع جزء محدود من الأسماك المتحجّرة ويتمّ الاحتفاظ بالباقي، تراجعت مع انتكاسة الموسم السياحي. “يحب السياح عادة شراء التذكارات، غير أن السياحة كانت معطّلة السنة الماضية. لكننا نعمل مع جامعات كثيرة خارج لبنان، ما يساعدنا إلى حدّ ما في تأمين استمرارية المؤسسة”.

إلى جانب الجامعات، تتعاون “ذاكرة الزمن” مع العديد من متاحف التاريخ الطبيعي الرائدة في مختلف أنحاء العالم. كما تحافظ على مكانتها في عالَم الأبحاث، حيث تساهم في نشر العديد من الدراسات العلمية حول الأسماك المتحجّرة اللبنانية المنشأ. أما مشاركتها في عدد من المعارض الدولية، فيهدف إلى حماية التراث الثقافي والتاريخي ونشر الوعي حيال أهميته على مستوى العالَم.

 


المصدر : الحرة