خاص- سوريا ترسم صورة الشرق الأوسط الجديد
منذ 5 ساعة
لفحت موجة الربيع العربي سوريا في شهر أذار عام ٢٠١١، وكان إعلان دمشق وفي قلبه الشهيد سمير قصير، وكسر الشعب السوري حواجز الصمت والخوف، وامتلأت ساحات المدن السورية بتظاهرات عشر ألفية وأكثر، رافعين شعار: الشعب يريد إسقاط النظام ، الشعب يريد كرامة وخبز وحرية. ولكن النظام عاند وتصلّب في عدم الاستجابة لمطالب الشارع . توسّعت التظاهرات وازداد حشدها وعديدها. فأدرك النظام بعد أشهر من انتفاضة الشارع أنه بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط. عمل على استدرج الشارع إلى حمل السلاح، واستعان بحزب الله كقوة مساندة في مواجهة الثورة الشعبية السلمية. على امتداد أشهر العام ٢٠١٢ فشلت قوات حزب الله في تأمين النظام من السقوط. دخلت إيران وميلشياتها المتعددة الجنسية لإنقاذ النظام، لكنها تعثّرت. أوفدت القيادة الإيرانية قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى موسكو يطلب النجدة. استجابة موسكو لسببين، الأول حماية جنوبها من خطر انتشار الإسلام السياسي، والثاني تحقيق حلمها التاريخي بقاعدة بحرية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. وقبل الإقدام على التدخل حرصت موسكو على التواصل بالأميركي لتغطية تدخلها في سوريا.
طيلة عامي ٢٠١٥ و ٢٠١٦ تمكّن التعاون الروسي من الجوي والإيراني في الميدان من تحقيق غلبة على فصائل الثورة السورية والسيطرة على ما يقارب ٧٠٪ من مساحة سوريا، ومنذ تلك اللحظة تحول بشار الأسد إلى دمية تحكم ثلث الشعب السوري بعدما هجّر ثلثيه، ودمّر بنية البلاد التحتية، وقتل واعتقل مئات الألوف من السوريين.
هنا يطرح السؤال: لماذا لم يعترض الغرب وعلى رأسه أميركا، ولم يندد بتدخّل حزب الله والإيراني، ولا بالتدخل الروسي حيث ارتُكبت المجازر بحق الشعب السوري، وحيث ذاع صيت البراميل المتفجرة التي دمّرت البيوت على رؤوس ساكنيها، ولم تسلم منها لا المدارس ولا المشافي، في مشهدية إبادة جماعية تكررت أيضاً تحت أعين سلطات دول الحلف الأطلسي وبتشجيع منها للعدو الإسرائيلي في غزة.
يعود غض النظر الأميركي عن مجازر بشار الأسد وداعميه في الميدان السوري حسب تقديري إلى سببين:
١-الخوف من سيادة الفوضى في سوريا والجوار في حال سقط نظام بشار الأسد، نظراً لما شهدته فصائل الثورة السورية من انقسامات، وتحولها إلى منصات تديرها دول إقليمية: منصة اسطنبول، منصة القاهرة، منصة الرياض، منصة موسكو، ومتفرقات آخرى منهم في بعض العواصم الأوربية. ولمعرفة مدى تفكك أفرقاء المعارضة السورية، يمكن العودة لكتاب الدكتور برهان غليون رئيس أول مجلس وطني للمعارضة السورية بعنوان "عطب الذات".
القلق الأميركي من سيادة الفوضى في سوريا، دفع إدارة أوباما إلى التعاون مع القيادة الروسية لسحب السلاح السوري الكيميائي، الذي يهدد أمن إسرائيل وإتلافه، لكن متجاوزين في ذات الوقت ما يرتكب من مجازر بحق الشعب السوري.
٢- استنزاف قدرات إيران وروسيا المادية والعسكرية في الميدان السوري، في الوقت الذي فرضت فيها أميركا الحصار المطبق على سوريا عبر قانون قيصر، واحتلت أهم مراكز الثروة السورية النفطية والغذائية في شرق الفرات وفي مدينة الرقة.
طوفان الأقصى يغيّر المعادلات
شكّل النجاح الباهر لهجوم حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى باجتياح غلاف غزة المحتل بعملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، تهديداً وجودياً لأول مرة للكيان الصهيوني منذ نشوئه قبل ٧٦ عاماً، ما دفع بالقوى الأطلسية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية إلى حشد أساطيلها وقواها العسكرية لحماية إسرائيل ومنع التهديد الفلسطيني من تحقيق أهدافه. ومن هذه الخلفية اتُخذ قرار دولي بإنهاء أذرع إيران في المنطقة، إبتداءً من غزة والضفة الغربية، وتفكيك ما عُرف بوحدة الساحات، والإجهاز عليها بعدما غضوا النظر طويلاً عن استباحتها لعواصم أربع دول عربية، بيروت ، دمشق، بغداد، وصنعاء. وما عزز توجه مراكز القرار في الغرب وتأثير الحركة الصهيونية فيها، في قرار إنهاء التمدد الإيراني وتهديد أمن دول الجوار ، هو فتح جبهة الإسناد من قبل حزب الله من جنوب لبنان ، ومسيرات الفصائل الإيرانية من سوريا باتجاه الجولان المحتل، وتعطيل الممرات البحرية عبر البحر الأحمر، ومسيرات وصواريخ اليمن البالستية، بدعم ورعاية وقيادة الحرس الثوري الإيراني.
أطلقت يد إسرائيل في غزة بارتكاب أفظع الجرائم ضد الإنسانية، وانبرت إلى تصفية قيادات حزب الله في لبنان وتدمير بناه العسكرية، واجتياح جنوب لبنان، بدعم وتسليح ومشاركة القوات الأميركية عسكرياً ومخابراتياً وتكنولوجياً. وكانت إدارة بايدن قبل ذلك، قد استدرجت روسيا إلى حرب استنزاف في أوكرانيا منذ شهر شباط ٢٠٢٢.
مقدمات الانهيار السريع والمفاجئ لنظام بشار الأسد.
١-خسارة بشار الأسد لدعامتيه العسكريتين:
-الطيران الحربي الروسي الذي غادر إلى روسيا في مواجهة أوكرانيا، ومرتزقة روسيا قوات " فاغنر" الذين غادروا إلى أفريقيا بعد مقتل زعيمهم بريغوجين.
-انسحاب قوى حزب الله المقاتلة إلى جنوب لبنان في مواجهة الاجتياح البري لجيش العدو الإسرائيلي.لم تعوض بقايا المليشيات العراقية والأفغانية غياب مقاتلي حزب الله.
٢-فقد بشار الأسد ثقة الروسي به، لرفضه المستمر مطالبتهم له السير بالحل السياسي على أساس قرار مجلس الأمن الدولي" ٢٢٥٤" منذ العام ٢٠١٥، كما رفضه لوساطة بوتين للتطبيع مع أردوغان.
٣-الانقسام في السلطة الإيرانية حول جدوى استمرار دعم المليشيات، والتوظيف غير المجدي لموارد إيران في الميدان السوري على حساب مصلحة الشعب الإيراني، والذي برزت مؤشراته في الانفتاح على العربية السعودية، ثم اغتيال الرئيس إبراهيم رئيسي الذي قاد عملية الانفتاح، واغتيال رئيس حركة حماس اسماعيل هنية في قلب طهران.
٤-الإنشقاقات المتتالية في الجيش السوري إبان الثورة والانقسامات الطائفية داخله،وتدني رواتب الضباط والأفراد، وانخفاض القدرة الشرائية إلى مادون تأمين الحد الأدنى من موجبات العيش الكريم.
فقدان أي حافز عند من تبقى من قيادات في الجيش السوري للدفاع عن بشار الأسد ونظامه، الذي عاث فساداً مع حاشيته وأفراد عائلته بطول المصالح السورية وعرضها.
سوريا الجديدة إلى أين؟
قيادة الإدارة العسكرية بقيادة أحمد الشرع أمام امتحان، إما النجاح ببناء دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية تعددية، أو سيادة الفوضى فيها التي تطيح بوحدة سوريا وتفتيتها إلى كيانات طائفية وعرقية، ستمتد حتماً إلى دول الجوار، ما يهدد استقرار المنطقة إلى وقت غير قصير، ويمهد لقيام شرق أوسط جديد إسرائيلي الذي يقوم على فكرة التفتيت.
من جهتي أميل للاعتقاد أن إدارة الشرع ستعمل على إطفاء كل بؤر التفتيت الكامنة والسير البطيئ باتجاه دولة حديثة مدنية في سوريا بظل وصاية أميركية مدعومة مرحلياً من تركيا في سوريا. وصاية تمتد من دمشق إلى بيروت، ولن تكون بغداد بعيدة من مظلتها بعد إرجاع إيران إلى داخل حدودها في مرحلة إدارة ترامب التي تتسلم مهامها في العشرين من كانون الثاني ٢٠٢٥، لتكون صورة الشرق الأوسط الجديد، متماهية مع صورة سوريا الجديدة. وتبقى قضية فلسطين ومستقبلها معلّقة على قدرة العامل العربي في التأثير على مشروع إدارة ترامب الشرق أوسطية. وفي هذا المجال سيكون للبحث صلة.