لبنان بين دولة القانون وكسر التسويات
منذ 7 ساعة
مع انتخاب الرئيس العماد جوزاف عون، تجددت آمال اللبنانيين بإمكانية الدخول في مرحلة جديدة تُرسخ دولة المؤسسات وسيادة القانون، بعد سنوات من التعطيل والشلل السياسي. وقد جاءت الاستشارات النيابية الأخيرة لتسمية رئيس الحكومة في سياق طبيعي ينسجم مع هذا التحول، مُشكّلة محطة مفصلية تعكس بوضوح تبدّل موازين القوى السياسية داخليًا. هذه الاستشارات، التي عُقدت في ظل ظرف إقليمي ودولي بالغ الدقة، فتحت الباب أمام مسار جديد يُعيد الاعتبار للدستور اللبناني كمرجعية أساسية في إدارة شؤون الدولة، ويؤسس لمرحلة أكثر التزامًا بالمعايير الديمقراطية والحكم الرشيد.
أظهرت المعارضة اللبنانية، وعلى رأسها حزب القوات اللبنانية باعتباره القوة الأكبر في صفوف المعارضة وصاحب الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان، نضجًا سياسيًا ملحوظًا في مقاربتها للاستحقاق الحكومي. فقد أدركت هذه القوى، بالتنسيق مع قوى التغيير التي بدأت تتفاعل بوعي أعمق مع متطلبات العمل السياسي، أن المرحلة الراهنة تستدعي تجاوز الحسابات الفئوية الضيقة والانخراط في مشروع وطني جامع. هذا الإدراك المتقدم دفع المعارضة إلى الالتفاف حول مرشح يتمتع بمناقبية عالية وسجل وطني نزيه، هو القاضي نواف سلام، كشخصية قادرة على قيادة مرحلة مفصلية تتطلب كفاءة والتزامًا بالدستور.
لم يكن هذا الخيار نتاج توافق ظرفي أو اصطفاف سياسي عابر، بل جاء تتويجًا لقراءة معمقة للمشهد اللبناني المتأزم، وتفاعلًا مسؤولًا مع تطلعات اللبنانيين الذين يطالبون بدولة القانون والمؤسسات. كما جاء هذا التوجه متناغمًا مع المناخات الإقليمية والدولية التي تدفع باتجاه تكريس الحكم الرشيد ودعم مسارات الإصلاح، لا سيما في ظل ضغوط دولية على الطبقة السياسية اللبنانية للإسراع في تنفيذ إصلاحات اقتصادية وإدارية.
على الرغم من أن الديمقراطية تُشكّل الإطار الأساسي للنظام السياسي اللبناني، إلا أن نتائج الاستشارات النيابية الأخيرة كشفت عن انزعاج واضح لدى الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، الذي اعتاد على إدارة الاستحقاقات السياسية عبر تسويات مُعلّبة وحلول مُعدة مسبقًا، مستندًا إلى أدوات ضغط تتجاوز الأطر الدستورية والديمقراطية. جاء هذا الانزعاج نتيجة مشهد جديد فرضته معارضة موحدة تمكّنت من الدفع باتجاه تسمية شخصية تعكس تطلعات الشارع اللبناني وتحظى بقبول وطني واسع عابر للطوائف، ما شكّل خطوة متقدمة نحو إعادة التوازن السياسي.
لقد حاول الثنائي الشيعي توظيف ورقة "الميثاقية" لتبرير اعتراضه على نتائج الاستشارات. غير أن هذه الذريعة سقطت أمام الوقائع الدستورية والسياسية، إذ إن الرئيس المكلّف حاز دعمًا وازنًا من الكتل النيابية الممثلة للطوائف الإسلامية والمسيحية على حد سواء، ما يُعد التزامًا فعليًا بروح الميثاق الوطني ومبدأ الشراكة. وهنا لا بد من التأكيد أن الميثاقية ليست أداة سياسية للمساومة أو عرقلة المسارات الدستورية، بل هي تجسيد حقيقي لإرادة اللبنانيين كافة، وفقًا لما ينص عليه الدستور.
الميثاقية الحقيقية تقوم على احترام نتائج العملية الديمقراطية والاحتكام إلى الدستور كمرجعية وحيدة لإدارة الشأن العام، بعيدًا عن الأعراف غير الدستورية التي تُفرض كحقائق سياسية لتكريس هيمنة معينة. إن تفسير الميثاقية بشكل انتقائي يُعيق مسار بناء الدولة، ويُبقي البلاد رهينة الأزمات المتكررة بدل التوجه نحو حلول مستدامة تعزز الاستقرار.
ما يميز أداء المعارضة اللبنانية اليوم هو قدرتها على تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة، من خلال تبني نهج سياسي مسؤول قائم على اتخاذ قرارات استراتيجية تخدم استقرار البلاد. وقد تجلى هذا النضج في تبني خيار وطني يحظى بتأييد واسع، قائم على الكفاءة والالتزام بالدستور، ما يُشكل خطوة متقدمة نحو تعزيز ثقافة ديمقراطية حقيقية، وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة كضمانة وحيدة لحماية لبنان وصون سيادته.
إن تبنّي خيار القاضي نواف سلام يُجسّد وعيًا متقدمًا لدى المعارضة بأهمية الانخراط في مشروع وطني جامع يتجاوز الحسابات الضيقة، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة التي تعصف بلبنان. فالمرحلة الراهنة تتطلب تشكيل حكومة إصلاحية قادرة على تنفيذ إصلاحات جذرية تلبّي شروط المجتمع الدولي، ولا سيما متطلبات صندوق النقد الدولي لضمان الحصول على مساعدات مالية تقدر بنحو 3 مليارات دولار. إلى جانب ذلك، يُعد هذا المسار خطوة أساسية لتهيئة المناخ الملائم لتدفق أموال الإعمار، التي يحتاجها لبنان بشكل ملح لإعادة إعمار المناطق المتضررة، ولضمان عودة المواطنين، الذين هجّرتهم مغامرات حزب الله العسكرية، إلى منازلهم وقراهم، ما يعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي ويكرّس مفهوم الدولة الحاضنة لجميع أبنائها.
تُعد المتغيرات السياسية الأخيرة في لبنان انعكاسًا واضحًا للحاجة إلى ترسيخ ثقافة ديمقراطية حقيقية تقوم على احترام الدستور والاحتكام إلى نتائج الاستحقاقات الدستورية بعيدًا عن الصفقات الضيقة والتسويات المرحلية. وجاءت نتائج الاستشارات النيابية الأخيرة انسجامًا مع خطاب القسم للرئيس العماد جوزاف عون، الذي أكد التزامه ببناء دولة المؤسسات والقانون.
إن التجربة الأخيرة في الاستشارات النيابية أظهرت أن لبنان قادر على إنتاج مسارات سياسية وطنية تنسجم مع تطلعات شعبه إذا ما توفرت الإرادة السياسية الصادقة. وعليه، فإن المطلوب اليوم هو البناء على هذه التجربة لتعزيز ثقافة الاحتكام إلى الدستور واحترام نتائج اللعبة الديمقراطية، بعيدًا عن لغة الاعتراض غير المبرر والتهرب من الاستحقاقات.
لبنان اليوم أمام فرصة حقيقية للانتقال من مرحلة المراوحة السياسية إلى مرحلة العمل المؤسسي الجاد، وهو انتقال لا يتحقق إلا عبر القبول بالتداول السلمي للسلطة والاحتكام إلى الدستور كمرجعية أولى وأخيرة. فالتسويات المرحلية لم تعد مجدية، وحان الوقت للانتقال إلى مرحلة جديدة عنوانها دولة مدنية عادلة وديمقراطية حقيقية. إن هذه اللحظة المفصلية تتطلب من جميع القوى السياسية إدراك مسؤولياتها الوطنية، والانخراط في مشروع إصلاحي يضع لبنان على مسار الاستقرار والنهوض الاقتصادي. لبنان يحتاج اليوم إلى إرادة سياسية حقيقية تُترجم إلى أفعال ملموسة تعيد بناء الدولة على أسس القانون والمؤسسات.
المصدر : Transparency News