د علي شعيب - كاتب سياسي واستشاري في التعليم والحوكمة الرقمية والمبادرات المجتمعية في كندا والشرق الأدنى.


على مدى أكثر من أربعة عقود، شكّل النظام السياسي اللبناني بُنية طائفية جامدة وبالغة التعقيد تركزت فيها السلطة في أيدي قلة مختارة من اللاعبين السياسيين وأحزاب وقوى سياسية طائفية ومذهبية. من بين تلك القوى الأكثر هيمنة على الواقعين السياسي والإجتماعي في الفترة الأخيرة حزب الله وحركة أمل —الثنائي الشيعي— اللذان سيطرا بشكل شبه مطلق على المشهد السياسي اللبناني، مستفيدين من تحالفاتهما مع دولتين إرهابيتين مارقتين: إيران وسورية، وحلفاء إقليميين لا يجمع بينهم أي جامع سوى اعتماد الإرهاب والتطرف الديني. 
لكن ما يحصل في الشرق الأوسط، الذي يشهد اليوم تحولاً جيوسياسياً هائلاً، يفرض سؤالاً محورياً يجب الإجابة عليه بشكل دقيق وعلمي ومتّزن: هل سيتمكن الثنائي الشيعي المأزوم من التكّيف مع كل تلك الإرهاصات الداخلية والخارجية المستجدة ويعمل مع شركائه في الوطن على صياغة سردية وطنية لبنانية جامعة، أم أنه سيقاوم التغييرات الجذرية تلك التي ستقوده حتما إلى المزيد من الخسارات والهزائم، زائد التهميش السياسي والاجتماعي لبيئته "المُمَانعة"؟

فمما لا شك به بأن الديناميات المتغيرة في الشرق الأوسط قد أضعفت قوى سياسية وعسكرية وأمنية لبنانية وعربية مثل حماس في فلسطين المحتلة، وحزب الله في لبنان، ونظام بشار الأسد في سوريا، والقوى المتحالفة مع إيران في العراق واليمن. وقد أسفرت الحروب الأخيرة في غزة ولبنان عن تدمير كبير لبنيتي حماس وحزب الله العسكرية، وبالتالي إفقادهما الحيثية السلطوية الإرهابية التي تمتعا بها لعقود من الزمن. وكان لسقوط نظام الأسد المدّوي فعل "خاتمة الإحزان" لملايين السوريين واللبنانيين الذين تنفسوا الصعداء بعد اكثر من خمسين عاما من القمع والقتل والإقصاء والنفي والتهجير الجماعي.
توازيا مع كل تلك الخسارات والهزائم لجماعة "المحور"، يشهد المسرح السياسي اللبناني تحولاً قويا، مدفوعاً بمعارضة متجددة مدعومة من الولايات المتحدة ودول الخليج والمجتمع الدولي بشكل عام، مطالبة اللبنانيين بـنموذج حكم جديد يبعد عن بلدهم شبح الإنقسامات الطائفية التي دمرت كل مقومات الدولة اللبنانية وهشّمت مؤسساتها وأجهزتها الوطنية.
أما بالنسبة إلى الثنائي الشيعي، يمثل هذا التحول الستراتيجي الحاد في المنطقة نوعا مذلاً من الوقوف القسري على مفترق طريق صعب وشاق، إما أن يأخذهم يمينا إلى برّ الأمان أو يسارا إلى المزيد من الخسائر والإنهزامات والتصادم مع شركائهم في الوطن، المدعومون إقليميا ودوليا، والجادّون في سعيهم إلى استعمال كل ذلك الدعم والزخم لتغيير الواقع الداخلي على أكثر من صعيد. 
لذا تجد اليوم قيادة الثنائي الشيعي بأن ثمة متغيرات جدّية ضخمة على مستوى العلاقات الداخلية مع باقي المكونات اللبنانية، الذين كانوا قد نجحوا في استعدائهم واستضعافهم لعقود من الزمن، تجعلهم يتمردون عليهم ويعلنون جهارا بأن "الزمن الأول تحول." 
ومما لا شك فيه بأن الثنائي الشيعي الذي استفاق قليلا من صدمة الضربات الإسرائيلية العنيفة والغير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، التي كسرت ظهره ودمرت بنيانه، يدخل اليوم في صدمة جديدة ألّمت به في عقر داره. فبسحر ساحر، وبرمشة عين، وجد الثنائي نفسه عاريا تماما تحت المجهرالإقليمي والدولي الذي يطالبه بالتغييرالسريع، وبتبني برنامج إصلاح وطني، وبالإندماج في مشروع الدولة الوطنية النهائية أو مواجهة فترة طويلة وقاسية من التهميش السياسي بينما يتقدم الجميع بخطى سريعة من دونهم. 
فماذا كان ردّ الفعل -الطبيعي والمتوقع- للثنائي الشيعي؟ المزيد من الشيئ نفسه، والتعنت والصلف والإستعلاء الذي عودوا اللبنانيين عليه وتعودوا هم عليه أيضا عندما كانوا الآمرين والناهيين في الداخل اللبناني بفعل التحالف مع دولة إرهابية مارقة تجد نفسها اليوم تحت مشرط الجرّاح الإميركي الذي يعاونه فريق من الأخصائيين الإسرائيليين البارعين في تقنيات التشطيب والتقطيع والتجزيز بلا تخدير. 


إرث الثنائي الشيعي: تاريخ من الأخطاء القاتلة
على مدى أربع عقود، قدّم حزب الله وحركة أمل نفسيهما كحماة للطائفة الشيعية اللبنانية المهمّشة، مالئين الفراغ الذي تركته مؤسسات الدولة خلال الإحتلال الإسرائيلي الطويل لجنوب لبنان حيث تعيش النسبة الإكبر لأبناء الطائفة الشيعية، بمساعدة ودعم إيراني منهجي، وتسهيل متعمد من النظام السوري البائد. هذا الدور الذي لم تلعبه الدولة اللبنانية، وغضّ الطرف عنه غالبية المكونات اللبنانية، أكسب الثنائي الشيعي دعمًا واسعًا وصداّ عميقا داخل البيئة الشيعية.  
لكن مع تعمق تغلغله في النظام السياسي اللبناني، ما لبثت أن تغيرت أولويات الثنائي الشيعي. فبدل من أن يتحول إلى شريك فعّال في بناء دولة عادلة، كونهم كانوا قد عانوا الأمرّين من التهميش، عزز قادة الثنائي، وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، هيكلية سياسية مذهبية جامدة، وقاموا بقمع المعارضين الشيعة وكل من لم ينتظم تحت عباءتهم، ومن ثم فرضوا بقوة الأمر الواقع سطوتهم على باقي الطوائف اللبنانية. 
وفي طريقه الطويل ذاك لتحصيل المزيد من القوة والصلابة، ساهم الثنائي الشيعي، بشكل منهجي فاقع جدا، في إفساد المؤسسات الأمنية والقضائية والإقتصادية والمالية، وضخها بعناصر حزبية تدين له بالولاء المطلق. وراحت منظومة الفساد داخل الثنائي الشيعي تعيث بالبلد خرابا من خلال التحالف مع كل فاسد وطامع بالسلطة من الطوائف والمكونات اللبنانية الأخرى، ليتقاسموا فيما بينهم السلطة والمال ويزيدون منسوب الفقر والعوز لدى عامة اللبنانيين ممن لا يحظون بالغطاء الذهبي ذاك.

أهم الأخطاء القاتلة للثنائي الشيعي على مدة أربعين عاما من السلطة والفساد والإفساد:
تأصيل الطائفية والمذهبية: نجح الثنائي الشيعي وحلفاؤه في تعزيز الأولوية للولاء الطائفي والمذهبي والمناطقي والحزبي على حساب الوحدة الوطنية، مما أدى إلى انقسامات داخلية حادة بدلاً من العمل الحثيث على تحقيق العدالة وإحقاق الحق وتعزيز المواطنة.
الفساد وسوء الإدارة: استبدال الكفاءات الشيعية بشبكات الزبائنية الحزبية والمافيات التي تغلغلت داخل جسم الدولة، مما ساعد على تفتيت مؤسسات وأجهزة الدولة، والفتك بمفهوم احتكارها للسلاح وحماية المجتمع، والتسبب بانهيار اقتصادي وانحلال إجتماعي وأخلاقي غير مسبوق في تاريخ لبنان.
قمع المعارضة: إسكات الأصوات المعارضة داخل الطائفة الشيعية وخارجها واغتيال مثقفيها المعارضين، ما أدى إلى عزلة شريحة واسعة من المجتمع اللبناني الشيعي الزاخر بالمهارات الإدارية والعلمية والثقافية الذي اختار الهجرة بدل الإستزلام لزعماء الطائفة الفاسدين وزبانيتهم الجشعين.
الاعتماد المفرط على إيران وسورية: أدى الاعتماد على إيران وسورية إلى الحد من قدرة الثنائي على التكيف مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة وعدم قدرته على استشراف المتغيرات في المنطقة، والقدرات المتعاظمة لإسرائيل، والتقدم الحاصل على المستويين التكنولوجيي والعلمي الذي لم تتمكن إيران من اللحاق بركابه.

في المحصلة النهائية، ما هو المطلوب من الثنائي الشيعي؟
للحفاظ على دورهم وتجنب التهميش، على قياداتي حزب الله وحركة أمل القيام بمراجعة نقدية شاملة ووافية للأربعين سنة الماضية والأخطاء الستراتيجية التي أوصلتهم للدرك الذي يجدون نفسهم فيه اليوم، ومن ثم القيام بإصلاحات جذرية وفعّالة. هذا ليس مجرد مسألة بقاء سياسي—بل هو واجب وطني وأخلاقي في المقام الأول. وبينما يقومان بذلك، عليهم أن يفسحوا المجال للشيعة المستقلين والمعارضين لهم بأن يستلموا زمام المبادرة ويشاركوا سريعا في عملية الإصلاح السياسي والتصالح مع باقي المكونات اللبنانية. هذا يعني أن المطلوب من الثنائي الشيعي التواضع وإفساح المجال أمام الطاقات الشيعية الجادة على مساعدتهم في عملية التصحيح المطلوبة.
إعادة التموضع كحزبين سياسيين وطنيين: على الثنائي الشيعي، وبشكل خاص حزب الله، أن يقوم بتسليم سلاحه بأسرع وقت ممكن إلى الأجهزة العسكرية والأمنية الشرعية لكي يصار إلى تدعيم ألوية الجيش اللبناني بها ورفده بالصواريخ والأسلحة الثقيلة والمتوسطة وأجهزة الرصد والتواصل التي هو بأهم الحاجة لها. ويجب على الثنائي الشيعي وضع حدّ لخطابه التخويني ضد كل من يخالفه الرأي السياسي والثقافي مهما كان حجم الإختلاف وعمق الخلافات. وعلى حزب الله أيضا أن يقوم بتشريع وجوده السياسي عبر إعطاء علم وخبر للأجهزة اللبنانية المختصة مثله مثل أي حزب سياسي مسّجل بشكل قانوني.
إحترام التعددية الثقافية والفكرية والسياسية داخل المجتمع الشيعي: يجب على الثنائي التحلي بروح المسؤولية الوطنية والإقلاع عن احتكاره للتمثيل الشيعي المطلق والشامل في الدولة اللبنانية وأجهزتها وإداراتها ومجالسها التمثيلية مثل البلديات والمخاتير وبأن يقلع عن اعتماد نظام المحاصصة والزبائنية الفاقع والمقيت.
تعزيز الشفافية والمساءلة: الإنتهاء من شبكات الزبائنية وتبني المحاسبة الداخلية لاستعادة ثقة الجمهور اللبناني به وبقدرته على الإندماج في عملية الإصلاح الشاملة المطلوبة لبنانيا وإقليميا ودوليا. فالمساءلة والمحاسبة هم أساس الإصلاح الجدّي الذي يساعد المجتمعات على التقدم والإزدهار والتعلم من الإخطاء للتحديث والإبتكار.
التفاعل مع المجتمع المدني والمنظمات الشبابية: الأجيال الشابة في لبنان تطالب بالتغيير. هذا ما حصل بالقول والفعل خلال انتفاضة 17 تشرين التي أجهضها الثنائي الشيعي عبر التعديات الجسدية وعمليات التهديد والوعيد وحرق الخيم والتجييش المذهبي (شيعة شيعة شيعة) الذي زاد من منسوب العداء له ولما يمثله من حارس للطبقة السياسية والإقتصادية الفاسدة. يجب على الثنائي القيام ببناء جسور ثقة وعلاقات طبيعية وصادقة مع المجموعات الشبابية من كل الطوائف في لبنان الذي سيساعد على فرض واقع جديد للتعاون والتعاضد والتضامن الوطني المستدام. 
إعادة تقييم التحالفات الإقليمية: إستخلاص الدروس من التحالف مع الدول المارقة مثل إيران والنظام السوري البائد والسعي إلى الحياد الإيجابي وتعزيز العلاقات الأخوية مع القوى العربية الفاعلة مثل السعودية ومصر الي سيساعد في إعادة الإعتبار للبنان وإعادته إلى احضنه العربي الطبيعي والأولى به.


دور المعارضة: النهج البنّاء
لنجاح فرص التعافي الوطني، يجب أن تمتنع قوى المعارضة وحلفاؤها الخارجيون عن السعي إلى محاولة فرض هيمنة كاملة على السلطة في لبنان، كما فعل الثنائي الشيعي على مدى أربعون عاما أذاق فيها خصومه علقم فائض القوة والإستعلاء والتسلط الممنهج. مع كل تلك المرارات والإخفاقات والخسارات، تبقى حقيقة أن النهج التصالحي ضرورة وطنية وأن التعالي فوق الجراح هو مطلب جماهيري ملّح. على جميع المكونات السياسية اللبنانية أن تتصدى لأي محاولة تهميش للثنائي الشيعي من قبل أي قوة إقليمية أو دولية لان ذلك يهدد بإغراق لبنان في مزيد من الفوضى والتناحر الداخلي والانقسامات الأفقية والعامودية.


على المعارضة أن تقوم بالخطوات التالية: التعالي فوق الجراح: الإقلاع عن خطاب التشّفي والإستهزاء بما أصاب الثنائي الشيعي من هزيمة عسكرية ومعنوية وسقوط محوره تحت الضربات الإسرائيلية والأميركية الثقيلة والموجعة، والتضامن الدولي والعربي (الغير معلن) مع ما حصل.  فخطاب التشفي يدّل على ضعف وانحلال ثقافي وأخلاقي لمطلقيه ومروجيه.  
الحوار الوطني والتشارك الفعلي في السلطة: دعوة جميع الأطراف إلى صياغة إطار حكم جديد يعزز التشارك المبني على الوطنية الخالصة والبعيد عن التحاصص الطائفي والمذهبي الذي سيقلل حتما من التوترات الداخلية السياسية والإجتماعية. لقد أثبتت التجارب السابقة للمكّونات اللبنانية بأن الإمتيازات والإحتكارات السلطوية الطائفية لا تدوم طويلا’ وبأنها لا تجلب إلا الوبال والمصائب على القائمين عليها والمستفيدين الآنيين منها، وأنهم لا بد سيدفعون فاتورة طغيانهم واستكبارهم عاجلا أم آجلا.
إعادة الإعمار الاقتصادي والازدهار المشترك: التركيز على وضع خطط التعافي الاقتصادي وتجديد البنية التحتية، التعليم، وخلق فرص عمل كريم ومجدي لجميع المواطنين. وهذا يعني مشاركة كل فئات الوطن في إعادة إعمار المناطق المتضررة في الجنوب والبقاع وبيروت ليشكل ذلك مشروعا وطنيا بإمتياز.
الأمن الوطني والإندماج التام في مشروع الدولة الجامعة: يجب على قوى المعارضة السابقة من أحزاب ومنظمات غير حكومية وأفراد مستقلين مد يد العون والمساعدة على دمج الجناح العسكري لحزب الله في هيكل الدفاع الوطني الذي سيعزز الشعور العام بالأمن والأمان، ويعطي اللبنانيين والأخوة العرب والمجتمع الدولي الأمل بأن التحارب الداخلي ذهب إلى غير رجعة وبأن اللبنانيين متساوون في المسؤوليات والواجبات الوطنية، وأهمها الدفاع عن كامل التراب اللبناني وصيانة الأمنين الإجتماعي والإقتصادي.


ختاما، رؤية مشتركة لمستقبل لبنان: يقف لبنان اليوم على مفترق لحظة تاريخية قد تتبخر إن لم يقم اللبنانيون بواجبهم الوطني والإنساني والأخلاقي بنبذ التقاتل والتحارب والتشّفي ورفع سقوف سياسية متطرفة. فالتغيرات الكبرى التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط تمثل فرصة حقيقية قد لا تتكرر في المستقبل القريب لـنهضة وطنية شاملة لن تتحقق إلا إذا تمكن المجتمع اللبناني من تجاوز الانقسامات الطائفية والعمل من أجل مستقبل مشترك واعد.
إن الطريق إلى الأمام يتطلب عقداً اجتماعياً جديداً يتجاوز الطائفية والمناطقية والحزبية، يستند إلى تعزيزالوحدة الوطنية، الإصلاح الاقتصادي، والحوكمة الرشيدة. ويجب على الثنائي الشيعي أن يختار التكيّف مع الواقع بدل العزلة، بينما يجب على المعارضة أن تتبنى المصالحة الوطنية بدل الانتقام والتشّفي. 
ولا يمكن فعل كل ذلك إلا من خلال الجهد الجماعي لإخراج لبنان من أزمته الحالية وإعادت بناء الثقة بين جميع مكوناته ومن ثم الشروع في إعادة بناء دولة مستقرة ومزدهرة وموحدة.
الرهانات كبيرة وصعبة ومحفوفة بالمخاطر. لكن الفرصة حقيقية. فمستقبل لبنان يعتمد على استعداد جميع قادته وشعبه للارتقاء إلى مستوى التحدي، والعمل من أجل مصلحة الوطن ككل، وحمايته من الرياح الإقليمية والدولية العاصفة بشدة والتي لن ترحمه إن هو تلكأ في التصدي للإصلاحات المطلوبة منه عربيا ودوليا.

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )


المصدر : Transparency News