زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى باريس شكّلت نقطة تحوّل في مشهد الانفتاح الدولي على دمشق، مع مساعٍ واضحة من الحكومة السورية الجديدة لكسر العزلة الغربية وتحقيق اختراق دبلوماسي مهم عبر البوابة الفرنسية. رغم التحفّظات، حملت الزيارة مؤشرات إيجابية، وفتحت الباب أمام تحولات محتملة في السياسة الأوروبية تجاه سوريا.


أعطت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فرنسا دفعة قوية لجهود الحكومة السورية الجديدة في السعي نحو اعتراف دولي بشرعيتها، لا يزال رهينًا بتقاطع المصالح الدولية وتناقضاتها. ففي حين واصلت واشنطن فرض شروطها الصارمة، فإن زيارة الشرع إلى باريس فتحت أمامه نافذة أوروبية قد تتّسع إذا نجحت دمشق في الإيفاء بتعهداتها الغربية.

الزيارة، رغم الملاحظات البروتوكولية التي رافقتها، من حيث الشكل والتوقيت، اعتُبرت خطوة متقدمة في رصيد دمشق. فالثقل السياسي والاستراتيجي الذي تمثله فرنسا في أوروبا قد يشجع دولاً أخرى على سلوك النهج ذاته، خصوصًا إذا تمكنت سوريا من تحقيق تسويات جدية تعزز الثقة وتؤسس لانفتاح أوسع.

ويرى المحلل السياسي فهد العمري أن استقبال الرئيس الشرع في باريس يُعدّ استكمالاً لمسار الانفتاح الفرنسي على دمشق، والذي بدأ مع إرسال وزير الخارجية جان نويل بارو، برفقة نظيرته الألمانية، إلى سوريا. وأكد العمري في حديثه لـ RT أن فرنسا ترى في الحكم السوري الجديد فرصة لقطع الطريق على موروث العزلة الذي فرضه النظام السابق، وتسعى إلى رفع العقوبات المفروضة عبر البوابة الفرنسية، شريطة التزام دمشق بالشروط الغربية التي تواضعت عليها العواصم المعنية، تمهيدًا لبناء الثقة.

وأوضح أن دمشق تستثمر «الغزل الفرنسي» بذكاء، مدركة حاجة البلاد الماسّة للدعم في ملفات التعافي المبكر، وإعادة الإعمار، والحصول على المساعدات، متوقعًا أن يُشكل هذا المسار مقدمة لعلاقات دولية أكثر توازنًا.

واعتبر العمري أن الشرع نجح، من على المنبر الفرنسي، في تسويق صورة جديدة لسوريا تعتمد على الخطاب المسؤول بدل لغة التهديد، محذرًا في الوقت ذاته من تجاهل المجتمع الدولي لما تمرّ به البلاد من تحديات أمنية واقتصادية، ومشيرًا إلى أن باريس قد تمثل الضمانة الأبرز في كبح اعتداءات إسرائيلية متكررة بعد طمأنة الأخيرة بشأن النوايا السورية تجاهها.

وفي السياق نفسه، لفت العمري إلى أن فرنسا تحاول استعادة دورها التاريخي في الشرق الأوسط، خصوصًا في سوريا ولبنان، وهو ما يفسّر سرعة تهنئة الرئيس ماكرون للشرع، وإعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق، وتعيين قائم بالأعمال، إلى جانب احتضان باريس المؤتمر الدولي حول سوريا في شباط الماضي بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني.

وعن الشروط الفرنسية، أشار العمري إلى أنها لا تعدو كونها غطاء سياسيًا لتمرير الزيارة بهدوء، موضحًا أن باريس تشترط إشراك الأقليات الدينية والعرقية، وإنهاء الانتهاكات، وإقصاء المقاتلين الأجانب عن مفاصل الجيش، إلا أن الواقع يؤكد اتخاذ القرار الفرنسي بالانفتاح على دمشق، بغض النظر عن السرديات الإعلامية المرتبطة بالعدالة والحرية.

كما شدد على أن فرنسا قلقة من تنامي خطر "داعش" في سوريا، ما دفعها لحث الشرع على التنسيق مع "قوات سوريا الديمقراطية" في مواجهة التنظيم، وهو ما تُرجِم بدعوات فرنسية لإشراك "قسد" في الحكومة، إلى جانب سعي باريس لفصل دمشق عن طهران وموسكو، وسط حرصها على التقرب من الشرع الذي لم يُبد مواقف متشددة تجاه روسيا.

اقتصاديًا، أوضح العمري أن باريس تسعى إلى حصة وازنة في مشاريع إعادة الإعمار، وقد بدأت بالفعل بجني ثمار انفتاحها عبر عقد وقعته "الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية" مع شركة "CMA CGM" الفرنسية لتشغيل وتطوير مرفأ اللاذقية لمدة 30 عامًا، بقيمة 230 مليون يورو، ما يجعل من استقرار سوريا أولوية فرنسية سياسية واقتصادية.

من جانبه، رأى المحلل السياسي قتيبة العلي أن فرنسا تبدو جدّية في منح الحكومة السورية فرصة للوفاء بتعهداتها، غير أن الأمر يبقى مرهونًا بمدى قدرة الشرع على احتواء الخلافات الداخلية، وإشراك جميع المكونات في الحكم، كما ترغب باريس.

وفي حديثه لـ RT، حذر العلي من أن باريس قد تلجأ إلى بدائل قائمة على علاقاتها التقليدية مع مكونات سورية مختلفة، بعيدًا عن مركزية دمشق، إن أخفق الرئيس الشرع في توحيد الجبهة الداخلية.

وأضاف أن فرنسا تمتلك أوراق ضغط مؤثرة، أبرزها علاقتها الوثيقة بـ"قسد"، خاصة في ظل حديث متزايد عن انسحاب أمريكي من شمال شرق سوريا، إضافة إلى الدور الفرنسي في رعاية المصالحة الكردية - الكردية، عبر زيارات وزير الخارجية المتكررة لمناطق الإدارة الذاتية وأربيل.

كما لفت العلي إلى العلاقات التاريخية بين باريس وسكان الساحل السوري، مشيرًا إلى ضغوط فرنسية لمحاكمة قادة الفصائل المرتبطة بدمشق، المتهمين بارتكاب انتهاكات هناك.

وختم بالإشارة إلى أن فرنسا قد تجد في التعاطي المباشر مع الأقليات البديل الواقعي لعلاقتها مع الحكومة إذا فشلت الأخيرة في فرض استقرار شامل، في ظل سعي دول أخرى كتركيا وإسرائيل لاقتطاع حصصها من النفوذ السوري، على حساب المصالح الفرنسية في المنطقة.


المصدر : روسيا اليوم