محمد فحيلي - باحث مقيم في كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB)


منذ بداية الانهيار المالي في لبنان، برز سؤال محوري: هل نحن أمام أزمة سيولة أم أزمة رأسمال؟ في الظاهر، تُقدّم الأزمة بوصفها انكماشاً في رساميل المصارف، وتُساق التبريرات لإعادة الهيكلة من خلال "قصّ الودائع" وإعادة الرسملة. لكن في العمق، ما تعرّض له لبنان هو نزيف حاد في السيولة بالدولار الأميركي، بفعل سياسات مالية ونقدية كارثية. وقد جرى، عن سابق تصور وتصميم، تحوير السردية من أزمة سيولة إلى أزمة رساميل، لا لتوضيح الحقيقة، بل للهروب منها.

جوهر الأزمة: تحوير متعمّد للسردية. الأزمة في لبنان بدأت فعلياً كأزمة سيولة بالعملة الأجنبية، نتيجة تبخّر الدولارات من مصرف لبنان والمصارف التجارية. لكن الخطاب الرسمي سرعان ما انزلق إلى توصيف الأزمة بأنها "أزمة رأسمال"، وذلك لعدة أسباب، أبرزها:

تبرير قصّ الودائع: حين يُقدَّم العجز على أنه في رأس المال، يصبح اقتطاع الودائع خياراً "منطقياً"، وكأنّ هذه الودائع اختفت بالفعل.

توزيع المسؤولية: نقص السيولة هو فشل في إدارة السياسة النقدية (أي مسؤولية مصرف لبنان)، أما نقص رأس المال فيُحمّل للمصارف التجارية. بهذا، تنتقل المسؤولية من الدولة إلى القطاع الخاص.

الامتثال الشكلي لمتطلبات الخارج: صندوق النقد والجهات الدولية تطلب تقييم الخسائر وتحديد الفجوة الرأسمالية. فتعمد الدولة إلى هندسة خطاب مالي يلبّي هذه الشروط ظاهرياً، دون كشف الوقائع أو تصحيح السياسات.

الهروب من الأسئلة السيادية: توصيف الأزمة بأنها شح في السيولة كان سيؤدي تلقائياً إلى سؤال كبير: أين ذهبت الدولارات؟ وهو سؤال قد يفضح التحويلات إلى الخارج، والهندسات المالية، وتمويل العجز، والدعم العشوائي... أي باختصار، فضح طبقة الحكم.

من الخداع إلى التداعيات: ضربة للثقة. ما يبدو للوهلة الأولى توصيفاً تقنياً للأزمة، تحوّل إلى سلاح ضد ثقة الناس بالنظام المصرفي. كيف يثق المودع بمصرفه إذا قيل له إن وديعته موجودة، ثم يُفاجأ لاحقاً بأنها اختُزلت في "رأسمال سلبي"؟ وكيف يطمئن اللبناني في الخارج، أو المستثمر، إلى بلدٍ يبدّل توصيف أزماته لتفادي المحاسبة؟

تحويل السردية بهذه الطريقة كان بمثابة عملية خداع جماعي، رتّبت نتائج كارثية، منها:

ضرب علاقة الثقة بين المودع والمصرف.
تآكل مصداقية السلطات النقدية.
انقطاع التدفقات الخارجية التي كانت شريان حياة الاقتصاد.
انهيار صورة لبنان المالية أمام المؤسسات الدولية.

لا تعافٍ بلا صدق. إن أي محاولة جادّة لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي يجب أن تبدأ بتسمية الأشياء بأسمائها: نحن في قلب أزمة سيولة، فاقمتها سياسات نقدية ومالية غير مسؤولة، واستُخدمت فيها الودائع لتمويل العجز، ودُفِنت الحقيقة تحت مصطلحات تقنية مضلّلة.

الرهان على الإنكار وتحوير السردية لم يعد مجدياً. وحده الاعتراف بالحقيقة يمكن أن يمهّد لتوزيع عادل للخسائر، ومحاسبة جدّية للمسؤولين، وبداية فعلية للتعافي. أما مواصلة المسرحية، فهي وصفة أكيدة لانهيار ما تبقّى من الثقة، ومن الدولة.


المصدر : Transparency News