محمد فحيلي، باحث لدى كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB)


ما هي الأسباب الموجبة وراء إصدار التعميم الاساسي 169 لمصرف لبنان؟

في الأول من تموز 2025، أصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي رقم 169، ليُضاف إلى سلسلة إجراءات استثنائية تتخفّى خلف شعارات الحفاظ على "الاستقرار النقدي"، بينما تمعن في تقويض العدالة الدستورية، وحقوق المودعين، وسيادة القضاء.

لكن ما يميز هذا التعميم الجديد عن غيره، هو صراحته في تحدي الأحكام القضائية الصادرة لمصلحة المودعين، إذ يدعو المصارف إلى عدم الامتثال للأحكام القضائية النهائية، ما يعني عملياً تعطيل مبدأ فصل السلطات المنصوص عليه في الدستور اللبناني، وتكريس السلطة النقدية كمرجعية فوق القانون.

 

القضاء اللبناني يتكلم ولكن من يسمع؟

خلال السنوات الأخيرة، أصدرت المحاكم اللبنانية مجموعة أحكام جريئة، استندت فيها إلى نصوص قانونية واضحة من قانون الموجبات والعقود وقانون التجارة وقانون النقد والتسليف. هذه الأحكام أعادت توصيف العلاقة بين المصرف والمودع على أنها عقد وديعة، ما يفرض التزاماً مطلقاً على المصرف بإعادة الأموال، دون أن يمتلك سلطة فرض قيود استنسابية بحجة "الظروف الاستثنائية".

بل إن القضاء اللبناني رفض صراحة الاعتراف بأي قانون نافذ للكابيتال كنترول ما يؤكد غياب أي غطاء قانوني يُشرعن ممارسات المصارف. ومع ذلك، يأتي تعميم 169 ليتجاوز هذه الوقائع، ويوجّه ضربة موجعة إلى ما تبقى من ثقة بمؤسسات الدولة.

 

يتحصن التعميم 169، كمعظم التعاميم الصادرة عن المركزي، بقانون النقد والتسليف، لكن هذا القانون بكل مواده لا يمنح الحاكم سلطة تعطيل الأحكام القضائية أو تجميد أموال المودعين تحت مسمى "الإدارة النقدية". بل إن الدستور اللبناني ينص وبوضوح على قدسية الملكية الخاصة، ويحظر المسّ بها دون تعويض عادل ووفق القانون.

إن ما يرتكبه هذا التعميم لا يقل عن احتجاز تعسفي لأموال الناس، ولا يمكن النظر إليه إلا على أنه إعلان صريح بأن سلطة مصرف لبنان أعلى من سلطة القضاء، وأقوى من الدستور. وعند مناقشة تفاصيل هذا التعميم والاسباب الموجبة من وراءه قال لي أحد الاصداق: هل من الممكن أن يكون الهدف من وراء هذا التعميم هو حماية المصلحة العامة وهذا يأتي أحياناً على حساب المصلحة الخاصة شرط التعويض العادل؛ وذكر مثلاً على ذلك عندما تستملك الدولة أملاك خاصة من أجل شق طريق عام! 

حقاً لم يقنعني هذا التبرير لأنه لن تكون المحافظة على المصلحة العامة من خلال إجراءات ترقيعية.

ما يزيد الطين بلّة هو أن التعميم يواصل سياسة حماية المصارف المتعثّرة على حساب المودعين، وكأن النظام المالي اللبناني لم ينهَر نتيجة سوء إدارتها وتهريب الأموال، بل بسبب أصحاب الحسابات الصغيرة الذين طالبوا بحقوقهم.

وفي غياب أي خطة واضحة لاسترداد الأموال المحتجزة أو محاسبة من ساهموا في الإنهيار، يصبح التعميم 169 بمثابة حصانة مالية مستحدثة لمنظومة مفلسة أخلاقياً وقانونياً، ترفض حتى منطق "جبر الضرر" أو الاعتراف بالأخطاء.

وهنا تذكرت تحرك القضاء في الأيام الأخيرة ضد بعض المصارف وكانت هذه التحركات منتجة لجهة إصدار أحكام وتنفيذها. هل جاء هذا التعميم رداً على هذه الحركة التي فيها بركة ليقول مصرف لبنان: الأمر لي . . .!

ما العمل؟

على السلطات التشريعية والقضائية، وكذلك المجتمع المدني والهيئات الحقوقية، أن يرفضوا هذا التعميم رفضاً قاطعاً، وأن يطالبوا بـ:

        وقف العمل في أحكام التعميم رقم 169 لمخالفته الدستور والقانون.

        رسم خريطة طريق واضحة المعالم لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة لمصلحة المودعين، دون مماطلة أو شروط. لا نريد شيطنة المصارف، ولكن في الوقت ذاته كفى إنتظار ومماطلة وهروب من المسؤولية.

        الشفافية والموضوع والمهنية لجهة تحديد مصير الأموال المهربة وملاحقة المتورطين.

        إنشاء هيئة رقابية مستقلة تحرر السياسة النقدية من هيمنة أصحاب المصالح.

        إصلاح جذري للقطاع المصرفي يُبنى على الشفافية، لا على الإنكار.

تعميم مصرف لبنان 169 ليس مجرد خطأ تقني في إدارة الأزمة، بل هو محاولة منهجية لترسيخ ديكتاتورية نقدية على أنقاض دولة القانون. إنه إعلان صريح بأن حقوق المودعين قابلة للتصرف، وأن سيادة القضاء يمكن تعليقها، وأن العدالة الاجتماعية ليست أولوية. لكن هذه المعادلة لن تدوم. فالدستور، وإن طال زمن تغييبه، لا يسقط بالتقادم. والمواطن، وإن صبر طويلاً، لن يقبل أن يُعامل كرهينة في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل.