العدالة أولاً: كيف نُنقذ ودائع اللبنانيين من براثن النسيان؟
10-06-2025 04:57 PM GMT+03:00
منذ العام 2019، يعيش اللبنانيون واحدة من أسوأ الأزمات المالية في تاريخهم الحديث. أكثر من 100 مليار دولار من أموال المودعين لا تزال محتجزة في المصارف، بلا أفق واضح، وبلا خطة إنقاذ متكاملة. تحوّلت المصارف من مؤسسات لحفظ الثقة إلى أدوات لتعميق الفوضى، فيما يقف المودع عاجزاً أمام شبكة مصالح معقدة تربط السياسي بالمصرفي، وتُقصي العدالة عن أي حل مطروح.
السؤال المحوري: هل لا تزال هناك إمكانية لحل عادل؟ أم أن الحديث عن العدالة في هذا السياق أصبح ترفاً لا جدوى منه؟
أُعيد التأكيد على أن الحل العادل ممكن، بل وضروري، للخروج من الأزمة. لكنه يتطلب أولاً الاعتراف بأسباب الانهيار، ثم وضع خارطة طريق واضحة ترتكز على مبادئ الشفافية، المساءلة، والإنصاف.
لا عدالة بلا مساءلة
الانهيار لم يكن بفعل صدفة، بل نتيجة فشل ممنهج في إدارة المخاطر، وغياب رقابة فعّالة من قبل السلطات النقدية والتنظيمية. المصارف أغرقت نفسها، ومعها أموال المودعين، في دوامة من الإقراض غير الآمن للدولة، دون التحوّط لأي سيناريو سلبي. أما الجهات الرقابية، فقد اكتفت بالالتزام الشكلي بالركيزة "الأولى" من توصيات لجنة بازل (متطلبات رأس المال)، متجاهلة الركيزة الثانية التي تُعنى بجوهر إدارة المخاطر.
هذا الفشل قد يكون ناجماً عن عدم كفاءة (فشل)، أو عن تواطؤ ومصلحة (فساد)، وفي كلا الحالتين النتيجة واحدة: تبخُّر الثقة، وضياع الودائع.
أطراف كثيرة تنكر وجود حل عادل
المفارقة أن الحديث عن "العدالة" يُقابل أحياناً بالسخرية أو اللامبالاة. السياسيون يتنصلون من المسؤولية. المصارف تتهرّب من أي اقتراح يُلزمها بمساهمة جدية في تحمّل الخسائر. الجهات الرقابية ترفع شعار "الواقع أقوى منا". حتى بعض المودعين، وبفعل الصدمة وفقدان الأمل، يطرحون حلولًا عاطفية لا تستند إلى واقعية اقتصادية.
النتيجة؟ شلل كامل، وتكريس لأمر واقع ظالم، تصبح فيه الودائع رهينة إلى أجل غير مسمّى.
ما هو الحل العادل؟
الحل العادل يجب أن يستند إلى أربعة مبادئ:
- الشفافية: لا يمكن بناء الثقة من جديد دون كشف حجم الخسائر، وتحديد المسؤوليات، ووقف التضليل المتعمد حول ما تبقى من أموال.
- العدالة التوزيعية: يجب حماية صغار المودعين أولاً، وتحميل الكبار، ومن استفادوا من الفوائد الاستثنائية، جزءاً أكبر من الخسائر. العدالة هنا ليست أخلاقية فقط، بل ضرورية للاستقرار.
- المساءلة: يجب أن يخضع كبار المصرفيين، والمساهمين، ومن شاركوا في التواطؤ السياسي-المالي، للمحاسبة القانونية. لا يمكن استعادة الأموال دون فتح ملفات التحويلات المشبوهة، لا سيما بعد تشرين 2019.
- التعويض التدريجي: لا يُشترط أن تُعاد كل الودائع فوراً، ولكن يجب وضع آلية واضحة ومُمكنة تُعيد الثقة. مثلاً، إنشاء صندوق لاسترداد الودائع، يُموَّل من أصول الدولة غير الأساسية، ويديره كيان مستقل، بشفافية كاملة، وبإشراف خارجي.
دور الدولة والمصرف المركزي
الدولة اللبنانية مطالبة أولاً بإعادة هيكلة ديونها، وتحمّل جزء من الخسائر، كونها المستفيد الأول من الانهيار. أما مصرف لبنان، فعلى الرغم من دوره الملتبس، لا يزال يمتلك بعض الأدوات التي يمكن أن تُساهم في الحدّ من الألم:
● فرض الشفافية المحاسبية على المصارف.
● تنظيم عمليات السحب تدريجياً، وفق معايير عادلة.
● إحياء تعاميم مثل 154، لكن مع تطبيق صارم.
● فتح قنوات تواصل مع المؤسسات الدولية لدعم خطة استرداد تدريجية.
تجارب دولية تؤكد أن الإنقاذ ممكن
أزمات مماثلة شهدتها دول مثل آيسلندا وقبرص أثبتت أن إعادة بناء النظام المالي ممكنة، إذا توفرت الإرادة، ووُضع المواطن في قلب الحل. هذه الدول اعتمدت على مبادئ واضحة، اتخذت قرارات صعبة، لكن استطاعت تجاوز الأزمة واستعادة الثقة.
العدالة ليست ترفاً... بل ضرورة وطنية
لا يمكن للبنان أن يستعيد دوره، ولا لاقتصاده أن يتعافى، إن بقيت الودائع محاصرة، والثقة مكسورة، والمحاسبة غائبة. العدالة في ملف الودائع ليست مطلباً شعبياً فقط، بل شرطاً أساسياٍ للاستقرار، وجسراً ضرورياً لأي مستقبل اقتصادي.
إنقاذ لبنان يبدأ من هنا: من الاعتراف، فالمساءلة، ثم التصحيح. وكل يوم تأخير هو طعنة جديدة في جسد الوطن المنهك.
(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )
المصدر : Transparency News
