محمد فحيلي - باحث لدى كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)


لم يعد خطر الانهيار مجرد احتمال، بل هو واقع يتمدد يوماً بعد يوم ليطال مؤسسات الدولة والمجتمع معاً. في ظل الإنكار المستمر والتفكك المؤسسي، ينزلق لبنان نحو نموذج الدولة الفاشلة، بينما يكتفي صانعو القرار بالمراوحة. إلى من يملكون القرار: تحرّكوا الآن، فساعة النجاة تضيق.

أزمات متراكمة بلا محاسبة. لا يمكن بناء دولة دون ذاكرة، ولا يمكن معالجة الانهيار دون مواجهة الأسباب. خمس سنوات مضت على الانهيار المالي، وبدل أن تُبنى مؤسسات الرقابة والمحاسبة، نرى استكمالاً لمسار الإنكار. قرار ديوان المحاسبة بشأن تبديد حقوق السحب الخاص ليس مجرد فضيحة، بل دليل على تفلّت إداري-مالي ممنهج.

أموال الإعمار بلا ضمانات، وهذا يؤكد تكرار الكارثة. الحصول على قرض جديد من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار في ظل غياب الشفافية والمحاسبة ليس إنجازاً، بل مخاطرة كبرى. لبنان، بلا بنية مؤسسية مستقلة، لا يملك القدرة اليوم على استثمار أي مساعدة تنموية دون أن يُهدرها الفساد.

التعيينات المالية في قبضة الزبائنية. الاستمرار في تكريس المحاصصة في التعيينات المالية (بما فيها مفاصل الرقابة المصرفية) يعني أن الانهيار لم يكن خللاً، بل سياسة ممنهجة. أي إصلاح سيفشل طالما بقيت مواقع القرار رهينة الولاءات.

الخطر الأمني الحقيقي في الداخل لا الخارج. رغم انتهاء التوتر العسكري بين إيران وإسرائيل، يعيش لبنان قلقاً وجودياً ناتجاً عن ضعف قراره السيادي. فغياب الرؤية الأمنية والاقتصادية الوطنية، يجعل البلد عرضة للهزات الخارجية بلا أي قدرة على التفاعل.

المصارف تعود بلا ذاكرة أو حساب. عودة المصارف إلى السوق الدعائية، دون مساءلة أو إصلاح، تُعد اعتداءً صارخاً على كرامة الناس وذاكرتهم. لا ثقة ستُبنى، ولا اقتصاد سينتعش، طالما لم تُسترجع الحقوق ولم تُفكّك بنية الإفلات من العقاب.

لبنان يُصنّف كدولة عالية المخاطر. تصنيف لبنان الأخير من قبل الاتحاد الأوروبي يعكس انعدام الثقة الدولية، ويرسّخ موقعه في خانة الدول غير الآمنة للاستثمار أو التعاون. هذه ليست توصية تقنية، بل حكم قاسٍ على النظام اللبناني.

لبنان دولة متعثّرة بشهادة المؤسسات الدولية. تثبيت التصنيفات الائتمانية المتدنية من قبل موديز وستاندرد آند بورز لا يعكس فقط عجز الدولة عن السداد، بل عجزها عن تقديم خطة نجاة.

إعادة الإعمار رهينة الزعامات. بدل أن تكون خطة وطنية، تحوّلت قضية الإعمار إلى مزاد سياسي. ومع غياب هيئة وطنية مستقلة لإدارة إعادة الإعمار، فإن أي مساهمة دولية قد تتحول إلى وقود جديد للفساد.

التحدّي الخارجي: عالم بلا مساعدات. تشير الورقة المرفقة حول تراجع المساعدات الإنمائية إلى أن العالم يسير نحو إعادة ترتيب أولوياته لصالح التسليح بدل التنمية، ما يعني أن لبنان لن يبقى في دائرة الاهتمام إلا إذا قدّم نفسه كحالة جدّية للإصلاح والتعاون. لم تعد المساعدات مضمونة، والاستدانة صارت عبئاً وجودياً.

التعليم والاقتصاد السياسي: انهيار فكري ومجتمعي. في ظل "الأزمة البيداغوجية"، لم يعد التعليم في لبنان يخرج أجيالاً قادرة على التغيير. الجامعة تكرّس الانكسار، والمنهج الاقتصادي يفرغ الأزمة من مضمونها السياسي. إصلاح النظام التعليمي شرطٌ لاستعادة الدولة كأفق لا ككابوس دائم.

وقت القرار لا التسويف. لبنان لا يحتاج إلى مزيد من الوعود، بل إلى قرار. المطلوب كسر منظومة الإنكار، بناء خطة إنقاذ وطنية تتكامل فيها الإرادة السياسية مع الرقابة الشعبية والدعم الدولي المشروط. المطلوب تشكيل هيئة مستقلة لإدارة التمويل الخارجي، وإعادة تفعيل القضاء المالي والإداري، وإقرار خطة تعافٍ فعلية تشمل إعادة هيكلة الدين، والمصارف، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي.

الوقت لا يعمل لصالح لبنان. وكل تأخير، ليس فقط انتحاراً سياسياً، بل جريمة أخلاقية بحق الأجيال القادمة.

(هذه الآراء الواردة في المقال تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع "Transparency News" )


المصدر : Transparency News