ديان سامر اللبان، طالبة ماجستير في الجامعة اللبنانية، وباحثة في مجال التنمية الاقتصادية والإجتماعية.


آن أوان الإنقاذ الوطني في لبنان في بلدٍ أثقلته الأزمات المركبة، وتوزعت فيه أسباب الانهيار بين سوء الإدارة وتفكك القرار السياسي وتآكل الثقة العامة، يبدو الحديث عن التنمية الاجتماعية والاقتصادية ترفاً نظرياً. لكنه، في الواقع، الفرصة الوحيدة المتبقية قبل الانفجار الكامل.

لقد بات واضحاً أن لبنان لا يعاني فقط من أزمة مالية أو انهيار نقدي. نحن أمام أزمة عميقة في منظومة إنتاج القيمة، وآليات التوزيع، وأدوار الدولة. فغياب المحاسبة على استنزاف المال العام، والانفصام بين السلطة التنفيذية والتشريعية، والشلل في المصارف، والتخبط في إدارة المساعدات، تكشف عن عجز ممنهج عن التفكير بالتنمية كأولوية وحاجة وطنية.

لكن التنمية لا تأتي بالدعاء. تحتاج إلى قرار سياسي شجاع يعترف أولاً بحجم المأساة، ثم يرسم طريقاً للإنقاذ عبر الخطوات التالية:

ترميم الثقة المجتمعية: لا تنمية من دون إصلاح العلاقة بين مكونات المجتمع اللبناني والدولة، وهو ما يتطلب خطاباً جديداًوجديّاً، واعترافاً بالذنب، وخطوات عملية نحو ردّ والحفاظ على الحقوق.
تحرير القرار الاقتصادي من الزبائنية: لا يمكن للاقتصاد أن ينهض إذا استمرّ منطق المحاصصة في التعيينات والقرارات. لا بد من اعتماد الكفاءة والمساءلة في كل مؤسسة عامة.
توجيه الاستثمار نحو الإنسان: على أي خطة تعافٍ أن تبدأ من التعليم، والصحة، والحماية الاجتماعية، لا من ترقيع الدين العام. إعادة الاعتبار للتعليم كأداة تحرير هو المدخل لأي نمو مستدام وتنمية عادلة.
مأسسة الشفافية والمحاسبة: تشكيل هيئة مستقلة لإدارة الإعمار والمساعدات شرط أساسي لاستعادة ثقة الداخل والخارج على حد سواء.

وفي خضم كل ذلك، لا بد من تحية للجهود الصادقة داخل الحكومة الحالية التي تعمل رغم الإمكانيات المحدودة، ورغم تقييد صلاحياتها. لكنّ إنجازاتها ستبقى عرضة للتعطيل طالما لم تتحرر من قبضة المكونات النيابية التي تملك حق الفيتو على أي مسار إصلاحي.

إن التنمية ليست نقيض الأزمة، بل ردّها العملي. هي الأمل الأخير في كسر دائرة العجز والانتظار. المطلوب ليس مشاريع كبرى، بل إرادة سياسية صغرى تبدأ من الاعتراف وتنتهي بالمحاسبة. فإما أن نغتنم هذه اللحظة الفارقة أو نغرق أكثر في تاريخ بلا مستقبل.

إن انهيار لبنان المطول ليس كارثة طبيعية، بل هو نتاج نظام مصمم بدقة لعرقلة التنمية. فعلى مدى سنوات، تعاملت السلطة السياسية بإنكار وإهمال مع الإفراط في الاستدانة وهدر المال العام، ولم تكتفِ بذلك، بل ساهمت في استنزاف أموال المودعين عبر نظام مصرفي هش ومتحالف مع النخبة. وترافقت هذه السياسات مع غياب الإرادة الجدية لإقرار الإصلاحات الضرورية، ما أدى إلى شلل اقتصادي ومؤسساتي طال الوطن والمواطن على حد سواء. فالتقدم الاجتماعي والاقتصادي في لبنان لا يفشل عن طريق الصدفة، بل يتم تقويضه بنشاط من خلال شبكة معقدة من الخلل السياسي والاستيلاء المؤسسي والترسيخ الطائفي.

في صميم المشكلة تكمن طبقة سياسية حولت الحكم إلى لعبة من المحسوبية الطائفية تعتمد على الهوية، بدلاً من المواطنة والكفاءات، للوصول إلى الفرص. ووفقاً لتقرير ESCWA الأخير، فقد شهد مؤشر تحدي الحوكمة إرتفاعاً ملحوظاً بين العام 2000 و 2023 وهو اليوم من الأعلى في المنطقة، ما يعكس التفاوت بين شكل الحكم ومضمونه.

تم تفريغ المؤسسات واستبدالها بإقطاعيات طائفية. لقد تم التضحية بالتخطيط الاقتصادي من أجل البقاء السياسي، ويتم تسييس التعيينات الحيوية في السلطات النقدية والقضاء والخدمة المدنية. ووفقاً للبيانات، فإن اعتماد الولاء والتوازن الطائفي كمعيار للتعيين يشل أي انطلاقة إصلاحية حقيقية ويعمق الجمود المؤسسي.

يفتقر لبنان إلى جهاز دولة فعال يقدر على تطوير استراتيجيات تنموية متكاملة. فبنية الخدمات مجزأة وغير منصفة، وقطاعات التعليم والصحة مفوضة للأحزاب والجمعيات. ويظهر ذلك بوضوح في اتساع فجوة اللامساواة: فقد سجل مؤشر عدم المساواة في الحوكمة بين عام ال 2010 وال 2023 إرتفاعاً ولا سيما في المشاركة وتوزيع السلطة.

يزداد الوضع تعقيداً مع هشاشة القطاع المالي، حيث أن لبنان في المرتبة 121 من 122 عالمياً في مؤشر المرونة المالية. ويعني ذلك أن أي صدمة مالية أو نقدية قد تكون كارثية. كما أن الاعتماد المفرط على التحويلات والخدمات، وضعف التصنيع والإنتاجية، يضع الاقتصاد اللبناني في خانة اللااستدامة.

وفي واقع تفتقد فيه الدولة للشفافية والمساءلة، فقد كان متوقعاً أن تكون مساعدات المجتمع الدولي والمنظمات تدعم الإصلاح، لكنها على العكس غالباً ما تتجاوز الدولة وتؤسس لشرعيات موازية. وبدلاً من دعم بناء المؤسسات أو التنمية طويلة الأجل، يتم توجيه المساعدات الخارجية من خلال المنظمات غير الحكومية أو الجهود الإنسانية القصيرة الأمد، ما يقوض شرعية الدولة.

ما يحتاجه لبنان الآن ليس مساعدات طارئة، بل تحول في الرؤية والنهج والقيم. ولكن لتحقيق ذلك يجب مواجهة التحديات الخمسة الآتية:

الطائفية. ترتبط الطائفية مباشرة بغياب العدالة والمساواة، كما يتضح من ارتفاع مؤشرات عدم المساواة في المشاركة المدنية وتوزيع السلطة. لا يمكن للدولة أن تعمل كحَكَم محايد ومزود للخدمات العامة في ظل النموذج الطائفي الحالي لتقاسم السلطة الذي يكافئ الانقسام ويعاقب الكفاءة.
السيادة الداخلية. تبدأ استعادة ثقة المواطن بإعادة تأكيد سلطة المؤسسات الوطنية، لا سيما في القضاء والبنك المركزي والهيئات التنظيمية، بعيداً عن التدخل الطائفي. وعلى الرغم من ارتفاع مؤشر فعالية الحكومة في 2021 بشكل مفاجىء  إلا أن ذلك يعكس تقييماً دولياً تقنياً لا يُترجم إلى أداء فعلي في تقديم الخدمات أو في ترسيخ حكم القانون.
المساءلة. بدون الحقيقة والشفافية والعواقب المترتبة على سوء الإدارة المالية والفساد، لن يكون أي إصلاح ذا مصداقية أو مستداماً. ويؤكد تقرير الإسكوا أن غياب المحاسبة ساهم في تقويض الثقة العامة، وأبقى على بيئة إفلات من العقاب تستنزف الطاقات.
الاقتصاد. لبنان يعتمد بشكل مفرط على الخدمات (78% من الناتج المحلي) مقابل 5% فقط للزراعة و9% للصناعة، بحسب بيانات الإسكوا. لا يمكن لاقتصاد بهذه البنية أن يصمد أمام الأزمات أو أن يوفر وظائف منتجة للشباب. المطلوب انتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج يرتكز على الصناعة والمعرفة والتمويل الشامل.
الشراكات الدولية. يجب على المانحين والشركاء العالميين التوقف عن تمكين الخلل الوظيفي المحلي ودعم رؤية بقيادة محلية لإعادة بناء المؤسسات والاندماج الاقتصادي. فبدون تمكين الدولة كمحور للتنمية، تبقى جهود المساعدات بلا جذور.

لا تكمن الأزمة في غياب الحلول، بل في غياب الإرادة السياسية لتبنيها. ويظهر تحليل مؤشرات التنمية واللامساواة والمرونة الاقتصادية أن لبنان لم يتراجع فحسب، بل يتآكل من الداخل. لا يمكن أن تُبنى تنمية على أساس الانقسام، ولا يمكن للاقتصاد أن ينهض دون عدالة ومساءلة. المطلوب ليس “إنقاذ” لبنان، بل إعادة تأسيسه على قواعد جديدة: دولة مدنية، مؤسسات مستقلة، اقتصاد منتج، وشراكات قائمة على تمكين الداخل لا تعويم الخارج.